عرض مشاركة واحدة
قديم 27-12-2007, 07:07   #10
sara-alammari
ضيف


الصورة الرمزية sara-alammari

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية :
 أخر زيارة : 01-01-1970 (04:00)
 المشاركات : n/a [ + ]
لوني المفضل : Cadetblue
رد : مكتبة للبحوث العلميه



ابن سينا
عاش ابن سينا في أواخر القرن الرابع الهجري وبدايات القرن الخامس من الهجرة، وقد نشأ في أوزبكستان، حيث ولد في "خرميش" إحدى قرى "بخارى" في شهر صفر (370 هـ= أغسطس 908م).

وحرص أبو عبد الله بن سينا على تنشئته تنشئة علمية ودينية منذ صغره، فحفظ القرآن ودرس شيئا من علوم عصره، حتى إذا بلغ العشرين من عمره توفي والده، فرحل أبو علي الحسين بن سينا إلى جرجان، وأقام بها مدة، وألف كتابه "القانون في الطب"، ولكنه ما لبث أن رحل إلى "همذان" فحقق شهرة كبيرة، وصار وزيرا للأمير "شمس الدين البويهي"، إلا أنه لم يطل به المقام بها؛ إذ رحل إلى "أصفهان" وحظي برعاية أميرها "علاء الدولة"، وظل بها حتى خرج من الأمير علاء الدولة في إحدى حملاته إلى همذان؛ حيث وافته المنية بها في (رمضان 428 هـ= يونيو 1037م).

في محراب العلم والإيمان

وكان ابن سينا عالما وفيلسوفا وطبيبا وشاعرا، ولُقِّب بالشيخ الرئيس والمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، كما عرف بأمير الأطباء وأرسطو الإسلام، وكان سابقا لعصره في مجالات فكرية عديدة، ولم يصرفه اشتغاله بالعلم عن المشاركة في الحياة العامة في عصره؛ فقد تعايش مع مشكلات مجتمعه، وتفاعل مع ما يموج به من اتجاهات فكرية، وشارك في صنع نهضته العلمية والحضارية.

وكان لذلك كله أبلغ الأثر في إضفاء المسحة العقلية على آرائه ونظرياته، وقد انعكس ذلك أيضا على أفكاره وآثاره ومؤلفاته، فلم يكن ابن سينا يتقيد بكل ما وصل إليه ممن سبقوه من نظريات، وإنما كان ينظر إليها ناقدا ومحللا، ويعرضها على مرآة عقله وتفكيره، فما وافق تفكيره وقبله عقله أخذه وزاد عليه ما توصل إليه واكتسبه بأبحاثه وخبراته ومشاهداته، وكان يقول: إن الفلاسفة يخطئون ويصيبون كسائر الناس، وهم ليسوا معصومين عن الخطأ والزلل.

ولذلك فقد حارب التنجيم وبعض الأفكار السائدة في عصره في بعض نواحي الكيمياء، وخالف معاصريه ومن تقدموا عليه، الذين قالوا بإمكان تحويل بعض الفلزات الخسيسة إلى الذهب والفضة، فنفى إمكان حدوث ذلك التحويل في جوهر الفلزات، وإنما هو تغيير ظاهري في شكل الفلز وصورته، وفسّر ذلك بأن لكل عنصر منها تركيبه الخاص الذي لا يمكن تغييره بطرق التحويل المعروفة.

وقد أثارت شهرة ابن سينا ومكانته العلمية حسد بعض معاصريه وغيرتهم عليه، ووجدوا في نزعته العقلية وآرائه الجديدة في الطب والعلوم والفلسفة مدخلا للطعن عليه واتهامه بالإلحاد والزندقة، ولكنه كان يرد عليهم بقوله: "إيماني بالله لا يتزعزع؛ فلو كنت كافرا فليس ثمة مسلم حقيقي واحد على ظهر الأرض".

ريادة فلكية

كان لابن سينا ريادات في العديد من العلوم والفنون؛ ففي مجال علم الفلك استطاع ابن سينا أن يرصد مرور كوكب الزهرة عبر دائرة قرص الشمس بالعين المجردة في يوم (10 جمادى الآخرة 423 هـ = 24 من مايو 1032م)، وهو ما أقره الفلكي الإنجليزي "جير مياروكس" في القرن السابع عشر.

واشتغل ابن سينا بالرصد، وتعمق في علم الهيئة، ووضع في خلل الرصد آلات لم يُسبق إليها، وله في ذلك عدد من المؤلفات القيمة، مثل:

- كتاب الأرصاد الكلية.

- رسالة الآلة الرصدية.

- كتاب الأجرام السماوية.

- كتاب في كيفية الرصد ومطابقته للعلم الطبيعي.

- مقالة في هيئة الأرض من السماء وكونها في الوسط.

- كتاب إبطال أحكام النجوم.

عالم جيولوجيا

وله أيضا قيمة في علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) خاصة في المعادن وتكوين الحجارة والجبال، فيرى أنها تكونت من طين لزج خصب على طول الزمان، وتحجر في مدد لا تضبط، فيشبه أن هذه المعمورة كانت في سالف الأيام مغمورة في البحار، وكثيرا ما يوجد في الأحجار إذا كسرت أجزاء من الحيوانات المائية كالأصداف وغيرها.

كما ذكر الزلازل وفسرها بأنها حركة تعرض لجزء من أجزاء الأرض؛ بسبب ما تحته، ولا محالة أن ذلك السبب يعرض له أن يتحرك ثم يحرك ما فوقه، والجسم الذي يمكن أن يتحرك تحت الأرض، وهو إما جسم بخاري دخاني قوى الاندفاع أو جسم مائي سيّال أو جسم هوائي أو جسم ناري.

ويتحدث عن السحب وكيفية تكونها؛ فيذكر أنها تولد من الأبخرة الرطبة إذا تصعّدت الحرارة فوافقت الطبقة الباردة من الهواء، فجوهر السحاب بخاري متكاثف طاف الهواء، فالبخار مادة السحب والمطر والثلج والطل والجليد والصقيع والبرد وعليه تتراءى الهالة وقوس قزح.

عالم نبات

وكان لابن سينا اهتمام خاص بعلم النبات، وله دراسات علمية جادة في مجال النباتات الطبية، وقد أجرى المقارنات العلمية الرصينة بين جذور النباتات وأوراقها وأزهارها، ووصفها وصفا علميا دقيقا ودرس أجناسها، وتعرض للتربة وأنواعها والعناصر المؤثرة في نمو النبات، كما تحدث عن ظاهرة المساهمة في الأشجار والنخيل، وذلك بأن تحمل الشجرة حملا ثقيلا في سنة وحملا خفيفا في سنة أخرى أو تحمل سنة ولا تحمل أخرى.

وأشار إلى اختلاف الطعام والرائحة في النبات، وقد سبق كارل متز الذي قال بأهمية التشخيص بوساطة العصارة، وذلك في سنة 1353 هـ = 1934م.

ابن سينا والأقرباذين

وكان لابن سينا معرفة جيدة بالأدوية وفعاليتها، وقد صنف الأدوية في ست مجموعات، وكانت الأدوية المفردة والمركبة (الأقرباذين) التي ذكرها في مصنفاته وبخاصة كتاب القانون لها أثر عظيم وقيمة علمية كبيرة بين علماء الطب والصيدلة، وبلغ عدد الأدوية التي وصفها في كتابه نحو 760 عقَّارًا رتبها ألفبائيا.

ومن المدهش حقا أنه كان يمارس ما يعرف بالطب التجريبي ويطبقه على مرضاه، فقد كان يجرب أي دواء جديد يتعرف عليه على الحيوان أولا، ثم يعطيه للإنسان بعد أن تثبت له صلاحيته ودقته على الشفاء.

كما تحدث عن تلوث البيئة وأثره على صحة الإنسان فقال: "فما دام الهواء ملائما ونقيا وليس به أخلاط من المواد الأخرى بما يتعارض مع مزاج التنفس، فإن الصحة تأتي". وذكر أثر ملوثات البيئة في ظهور أمراض حساسية الجهاز التنفسي.

الطبيب الإنسان

بالرغم من الشهرة العريضة التي حققها ابن سينا كطبيب والمكانة العلمية العظيمة التي وصل إليها حتى استحق أن يلقب عن جدارة بأمير الأطباء، فإنه لم يسعَ يوما إلى جمع المال أو طلب الشهرة؛ فقد كان يعالج مرضاه بالمجان، بل إنه كثيرا ما كان يقدم لهم الدواء الذي يعده بنفسه.

كان ابن سينا يستشعر نبل رسالته في تخفيف الألم عن مرضاه؛ فصرف جهده وهمته إلى خدمة الإنسانية ومحاربة الجهل والمرض.

واستطاع ابن سينا أن يقدم للإنسانية أعظم الخدمات بما توصل إليه من اكتشافات، وما يسره الله له من فتوحات طبيبة جليلة؛ فكان أول من كشف عن العديد من الأمراض التي ما زالت منتشرة حتى الآن، فهو أول من كشف عن طفيل "الإنكلستوما" وسماها الدودة المستديرة، وهو بذلك قد سبق الإيطالي "دوبيني" بنحو 900 سنة، وهو أول من وصف الالتهاب السحائي، وأول من فرّق بين الشلل الناجم عن سبب داخلي في الدماغ والشلل الناتج عن سبب خارجي، ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم، مخالفا بذلك ما استقر عليه أساطين الطب اليوناني القديم.

كما كشف لأول مرة عن طرق العدوى لبعض الأمراض المعدية كالجدري والحصبة، وذكر أنها تنتقل عن طريق بعض الكائنات الحية الدقيقة في الماء والجو، وقال: إن الماء يحتوي على حيوانات صغيرة جدا لا تُرى بالعين المجردة، وهي التي تسبب بعض الأمراض، وهو ما أكده "فان ليوتهوك" في القرن الثامن عشر والعلماء المتأخرون من بعده، بعد اختراع المجهر.

وكان ابن سينا سابقا لعصره في كثير من ملاحظاته الطبية الدقيقة، فقد درس الاضطرابات العصبية والعوامل النفسية والعقلية كالخوف والحزن والقلق والفرح وغيرها، وأشار إلى أن لها تأثيرا كبيرا في أعضاء الجسم ووظائفها، كما استطاع معرفة بعض الحقائق النفسية والمرضية عن طريق التحليل النفسي، وكان يلجأ في بعض الأحيان إلى الأساليب النفسية في معاجلة مرضاه.

ابن سينا وعلم الجراحة

وقد اتبع ابن سينا في فحص مرضاه وتشخيص المرض وتحديد العلاج الطريقة الحديثة المتبعة الآن، وذلك عن طريق جس النبض والقرع بإصبعه فوق جسم المريض، وهي الطريقة المتبعة حاليا في تشخيص الأمراض الباطنية، والتي نسبت إلى "ليوبولد أينبرجر" في القرن الثامن عشر، وكذلك من خلال الاستدلال بالبول والبراز.

ويظهر ابن سينا براعة كبيرة ومقدرة فائقة في علم الجراحة، فقد ذكر عدة طرق لإيقاف النزيف، سواء بالربط أو إدخال الفتائل أو بالكي بالنار أو بدواء كاو، أو بضغط اللحم فوق العرق.

وتحدث عن كيفية التعامل مع السهام واستخراجها من الجروح، ويُحذر المعالجين من إصابة الشرايين أو الأعصاب عند إخراج السهام من الجروح، وينبه إلى ضرورة أن يكون المعالج على معرفة تامة بالتشريح.

كما يعتبر ابن سينا أول من اكتشف ووصف عضلات العين الداخلية، وهو أول من قال بأن مركز البصر ليس في الجسم البلوري كما كان يعتقد من قبل، وإنما هو في العصب البصري.

وكان ابن سينا جراحا بارعا، فقد قام بعمليات جراحية ودقيقة للغاية مثل استئصال الأورام السرطانية في مراحلها الأولى وشق الحنجرة والقصبة الهوائية، واستئصال الخراج من الغشاء البلوري بالرئة، وعالج البواسير بطريقة الربط، ووصف بدقة حالات النواسير البولية كما توصل إلى طريقة مبتكرة لعلاج الناسور الشرجي لا تزال تستخدم حتى الآن، وتعرض لحصاة الكلى وشرح كيفية استخراجها والمحاذير التي يجب مراعاتها، كما ذكر حالات استعمال القسطرة، وكذلك الحالات التي يحذر استعمالها فيها.
________________________________________
الأمراض التناسلية

كما كان له باع كبير في مجال الأمراض التناسلية، فوصف بدقة بعض أمراض النساء، مثل: الانسداد المهبلي والأسقاط، والأورام الليفية.

وتحدث عن الأمراض التي يمكن أن تصيب النفساء، مثل: النزيف، واحتباس الدم، وما قد يسببه من أورام وحميات حادة، وأشار إلى أن تعفن الرحم قد ينشأ من عسر الولادة أو موت الجنين، وهو ما لم يكن معروفا من قبل، وتعرض أيضا للذكورة والأنوثة في الجنين وعزاها إلى الرجل دون المرأة، وهو الأمر الذي أكده مؤخرا العلم الحديث.

كتاب عربي علّم العالم

وقد حظي كتابه القانون في الطب شهرة واسعة في أوربا، حتى قال عنه السيد "وليم أوسلر": إنه كان الإنجيل الطبي لأطول فترة من الزمن.

وترجمه إلى اللاتينية "جيرارد أوف كريمونا"، وطبع نحو 15 مرة في أوربا ما بين عامي (878هـ= 1473م، و906 هـ = 1500م) ثم أعيد طبعه نحو عشرين مرة في القرن السادس عشر.

وظل هذا الكتاب المرجع الأساسي للطب في أوربا طوال القرنين الخامس والسادس عشر، حتى بلغت طبعاته في أوربا وحدها أكثر من 40 طبعة.

واستمر يُدرَّس في جامعات إيطاليا وفرنسا وبلجيكا حتى أواسط القرن السابع عشر، ظل خلالها هو المرجع العلمي الأول بها.

قانون ابن سينا للحركة والسكون

أما في مجال الفيزياء فقد كان ابن سينا من أوائل العلماء المسلمين الذين مهدوا لعلم الديناميكا الحديثة بدراستهم في الحركة وموضع الميل القسري والميل المعاون، وإليه يرجع الفضل في وضع القانون الأول للحركة، والذي يقول بأن الجسم يبقى في حالة سكون أو حركة منتظمة في خط مستقيم ما لم تجبره قوى خارجية على تغيير هذه الحالة، فقد سبق ابن سينا إلى ملاحظة حركة الأجسام، واستنباط ذلك القانون الذي عبّر عنه بقوله: "إنك لتعلم أن الجسم إذا خُلي وطباعه ولم يعرض له من خارج تأثير غريب لم يكن له بد من موضع معين وشكل معين، فإذن له في طباعه مبدأ استيجاب ذلك".

وهو بذلك سبق إسحاق نيوتن بأكثر من ستة قرون وجاليليو بأكثر من 5 قرون وليوناردو دافنشي بأكثر من 4 قرون؛ مما يستحق معه أن ينسب إليه ذلك القانون الذي كان له فضل السبق إليه: "قانون ابن سينا للحركة والسكون".

كما ابتكر ابن سينا آلة تشبه الونير Vernier، وهي آلة تستعمل لقياس الأطوال بدقة متناهية.

واستطاع بدقة ملاحظة أن يفرق بين سرعتي الضوء والصوت، وهو ما توصل إليه إسحاق نيوتن بعد أكثر من 600 سنة، وكانت له نظرياته في (ميكانيكية الحركة)، التي توصل إليها "جان بيردان" في القرن الرابع عشر، و(سرعة الحركة) التي بنى عليها "ألبرت أينشتين" نظريته الشهيرة في النسبية.

ابن سينا في عيون الغرب

حظي ابن سينا بتقدير واحترام العلماء والباحثين على مر العصور حتى قال عنه "جورج ساتون": "إن ابن سينا ظاهرة فكرية عظيمة ربما لا نجد من يساويه في ذكائه أو نشاطه الإنتاجي".. "إن فكر ابن سينا يمثل المثل الأعلى للفلسفة في القرون الوسطى".

ويقول دي بور: "كان تأثير ابن سينا في الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى عظيم الشأن، واعتبر في المقام كأرسطو".

ويقول "أوبرفيل": "إن ابن سينا اشتهر في العصور الوسطى، وتردد اسمه على كل شفة ولسان، ولقد كانت قيمته قيمة مفكر ملأ عصره.. وكان من كبار عظماء الإنسانية على الإطلاق".

ويصفه "هولميارد" بقوله: "إن علماء أوربا يصفون "أبا علي" بأنه أرسطو طاليس العرب، ولا ريب في أنه عالم فاق غيره في علم الطب وعلم طبقات الأرض، وكان من عادته إذا استعصت عليه مسألة علمية أن يذهب إلى المسجد لأداء الصلاة، ثم يعود إلى المسألة بعد الصلاة بادئا من جديد؛ فيوفق في حلها".

ولا تزال صورة ابن سينا تزين كبرى قاعات كلية الطب بجامعة "باريس" حتى الآن؛ تقديرا لعلمه واعترافا بفضله وسبْقه.

من مصادر الدراسة:

عيون الأنباء في طبقات الأطباء ابن أبي أصيبعة - دار الثقافة - بيروت (1401 هـ = 1981م).

إخبار العلماء بأخبار الحكماء: علي بن يوسف القفطي - مكتب المتنبي- القاهرة: (د.ت).

تاريخ الطب والصيدلة المصرية (في العصر الإسلامي) د. سمير يحيى الجمال- الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة (1419 هـ = 1999م).

تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك: قدري حافظ طوقان – دار الشروق – القاهرة (د.ت).

تاريخ العلم ودور العلماء في تقدمه: د. عبد الحليم منتصر – دار المعارف – القاهرة (1391هـ= 1971م).

أعلام الفيزياء في الإسلام: د. علي عبد الله الدفاع – د. جلال شوقي – مؤسسة الرسالة – بيروت : (1406 هـ= 1985م).

إسهام علماء العرب والمسلمين في علم النبات: د. علي عبد الله الدفاع – مؤسسة الرسالة – بيروت
__________________

يتبع .
ثابت بن سنان





جمع "ثابت بن سنان" بين عدد كبير من العلوم الإنسانية والتطبيقية، فكان مؤرخًا فيلسوفًا وأديبًا، كما كان طبيبًا وفلكيًا ورياضيًا، وكانت له بصمات واضحة في تلك العلوم والفنون، بالرغم من أنه لم يحقق قدرًا كبيرًا من الشهرة، ولم يبلغ ما بلغه جده "ثابت بن قرة الحراني" من الشهرة والذيوع.

نشأة علمية في أسرة عريقة

ولد "أبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة" في أسرة عريقة، اشتهرت بالعلم والطب، ونشأ في بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية، وموطن العلم وقبلة العلماء، كان أبوه "سنان" طبيبًا ماهرًا، وقد خوله الوزير "أبو عيسى بن الجراح" مهمة الإشراف على علاج المساجين في سجون الدولة، وتوفير الدواء والرعاية الصحية لهم.

كما قلده البيمارستانات ببغداد وغيرها، فكان يقوم بعمله بمهارة وإتقان جعلته موضع ثقة الوزير "علي بن عيسى" والخليفة "المقتدر بالله العباسي".

وكان جده هو الطبيب المعروف "ثابت بن قرة" الذي برز كواحد من أكبر الأطباء والمترجمين في القرن (3هـ = 9م)، والذي كان يتميز بالبراعة والذكاء، وقد روي عنه حفيده "ثابت بن سنان" قصة طريفة مؤداها أنه كان يمر في طريقه دائمًا بجزار يبيع اللحم، وكانت له عادة غريبة، فهو يقطع شرائح الكبد ويضع عليها الملح ثم يتناولها نيئة. وتوقع "ثابت" له أن يصاب بأذى، فجهّز الدواء اللازم له، وكان يحمله معه كلما مر عليه، وفي أحد الأيام مر ثابت بالجزار فسمع صراخًا وعويلاً، فأدرك أنه صار إلى ما توقعه له وعندما سأل عن الخبر قيل له: إن الجزار قد مات، فطلب الدخول عليه، وعلى الفور بدأ بتنشيط نبض الرجل وأعطاه الدواء الذي أعده خصيصًا له، وسرعان ما أفاق الرجل وبدأ يستعيد نشاطه وحيويته.

في بلاط العباسيين

وقد عاصر "ثابت بن سنان" عددًا كبيرًا من الخلفاء العباسيين، وكانت له مكانة وحظوة في بلاط كثير منهم، وجعل علمه وخبرته ومهارته في خدمتهم، فاتصل بالخليفة "الراضي" [320-322هـ = 932-943م]، كما خدم الخليفة "المتقي بالله" [329-333هـ = 941-944م]، وكذلك الخليفة "المستكفي بالله" [333-334هـ = 944-945م]، والخليفة "المطيع" [334-363هـ = 945-974م].

وتولى "ثابت بن سنان" إدارة بيمارستان بغداد فترة طويلة من الزمان.

وكان "ثابت" طبيبًا نبيلاً، اطلع على كتب الأقدمين، وأضاف إليها العديد من خبراته ومشاهداته، وقد ساعده على التبحر في علوم الطب أنه نشأ في أسرة توارثت هذا العلم، وقد سلك فيه مسلك جده "ثابت" في نظره في الطب والفلسفة.

ابن سنان مؤرخًا

ولم يمنع اشتغال ثابت بالطب من اشتغاله بعلم آخر بعيد تمامًا عن مجال الطب، وهو علم التاريخ، وقد وضع "ثابت" كتابًا مشهورًا في التاريخ، أخذ عنه كثير من المؤرخين الذين جاءوا من بعده، وكان كتابه هذا يسجل فترة مهمة من التاريخ الإسلامي في العصر العباسي، بدأه من خلافة المقتدر بالله العباسي سنة [295هـ = 908م] وانتهى قبيل وفاته بنحو عامين سنة [363هـ = 974م]، وقد جعله ذيلاً على "تاريخ الطبري"، ونسج فيه على منواله، واتبع طريقته في التصنيف، إلا أن هذا الكتاب فُقد، ولم يصلنا منه سوى بعض النقول ولكن تظل مهنة الطب هي المسيطرة على فكر ابن سنان وثقافته فهي تطل من ثنايا كتاباته في التاريخ، وبدا جليًا تأثره الواضح بمهنته كطبيب، فكان يهتم بالأخبار الطبية الطريفة، فينساب قلمه في وصفها شارحًا ومحللاً، من ذلك قوله: "حدثني جماعة من أهل الموصل ممن أثق به أن بعض بطارقة الأرمن أنفذ في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة إلى ناصر الدولة رجلين من الأرمن ملتصقين".

ويهتم "ثابت" بوصف صفة التصاق التوأمين، وكيفية تحركهما وتناولهما الطعام، ويتحدث عن اختلاف طبائعهما وتباين مزاجهما، واختلافهما في الميول والاهتمامات.

وفي موضع آخر يقول: "ورأيت في صدر أيام المقتدر ببغداد امرأة بلا ذراعين ولا عضدين، وكان لها كفان بأصابع تامة معلقتان رأس كتفيها لا تعمل بهما شيئًا. وكانت تعمل أعمال اليدين برجليها ورأسها تغزل برجلها وتمد الطاقة وتسويها وتسرّح امرأة برجليها".

ابن سنان معلمًا وطبيبًا

وكان "ثابت بن سنان" أستاذًا للعديد من الدارسين والأطباء، وكان يدرس كتب أبقراط وجالينوس، وكان أحمد وعمر ابنا يونس بن أحمد الحراني ممن قرأ عليه كتب جالينوس في بغداد، كما شارك في ترجمة كثير من الكتب الطبية من اللغات السريانية واليونانية وشرحها وإضافة معلومات جديدة إليها.

وكان لبراعته ومهارته وعلمه أكبر الأثر في توليه رئاسة بيمارستان بغداد خلفًا لأبيه ليكون عميدًا لأطباء بغداد.

وتوفي "ابن سنان" في [11 من ذي القعدة 365هـ = 11 من يوليو 975م].

وقد رثاه "أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابئ" بأبيات، منها:

أثابت بن سنان دعوة شهدت
لديها أنه ذو علة أسف

ما بال طبك لا يشفي، وكنت به
تشفي العليل إذا ما شفّه الدنف

غالتك غول المنايا فاستكنت لها
وكنت ذا يدها والروح تختطف


أهم مصادر الدراسة:

إخبار العلماء بأخبار الحكماء: علي بن يوسف القفطي، مكتبة المتبني – القاهرة: [د. ت].

سير أعلام النبلاء: شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي. إشراف/ شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة – بيروت: [1410هـ=1990م].

شذرات الذهب في أخبار من ذهب: أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي – دار إحياء التراث العربي – بيروت: [د. ت].

عيون الأنباء في طبقات الأطباء: موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم بن خليفة. تحقيق: د. نزار رضا، دار مكتبة الحياة – بيروت: [د. ت].

المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، دراسة وتحقيق: محمد عبد القادر عطا – مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية – بيروت.

وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: أحمد بن محمد بن خلكان. تحقيق: د. إحسان عباس – دار الثقافة – بيروت: [د. ت].

الوافي بالوفيات: صلاح الدين خليل بن أبيك الصفدي. دار النشر فرانز شتاينز – شتوتجارت: [1411هـ = 1991م].
شجرة الدر

لقي السلطان "الصالح أيوب" ربَّه في ليلة النصف من شعبان (سنة 647هـ) والقوات الصليبية تزحف جنوبًا على شاطئ النيل الشرقي لفرع دمياط؛ للإجهاز على القوات المصرية الرابضة في المنصورة، وكانت إذاعة خبر موت السلطان في هذا الوقت الحرج كفيلة بأن تضعف معنويات الجند، وتؤثر في سير المعركة.

ويذكر التاريخ أن شجرة الدر وقفت موقفًا رائعًا، تعالت فيه على أحزانها، وقدمت المصالح العليا للبلاد، وأدركت خطورة الموقف العصيب، فأخفت خبر موته، وأمرت بحمل جثته سرًا في سفينة إلى قلعة الروضة بالقاهرة، وأمرت الأطباء أن يدخلوا كل يوم إلى حجرة السلطان كعادتهم، وكانت تُدخل الأدوية والطعام غرفته كما لو كان حيًا، واستمرت الأوراق الرسمية تخرج كل يوم وعليها علامة السلطان.

وتولت شجرة الدر ترتيب أمور الدولة، وإدارة شئون الجيش في ميدان القتال، وعهدت للأمير "فخر الدين" بقيادة الجيش، وفي الوقت نفسه أرسلت إلى توران شاه ابن الصالح أيوب تحثه على القدوم ومغادرة حصن كيفا إلى مصر، ليتولى السلطنة بعد أبيه. وفي الفترة ما بين موت السلطان الصالح أيوب، ومجيء ابنه توران شاه في (23 من ذي القعدة 648هـ = 27 من فبراير 1250م)، وهي فترة تزيد عن ثلاثة أشهر، نجحت شجرة الدر في مهارة فائقة أن تمسك بزمام الأمور، وتقود دفة البلاد وسط الأمواج المتلاطمة التي كادت تعصف بها، ونجح الجيش المصري في رد العدوان الصليبي، وإلحاق خسائر فادحة بالصليبيين، وحفظت السلطنة حتى تسلمها توران شاه الذي قاد البلاد إلى النصر.

التخلص من توران شاه

بعد النصر تنكر السلطان الجديد لشجرة الدر، وبدلاً من أن يحفظ لها جميلها بعث يتهددها ويطالبها بمال أبيه، فكانت تجيبه بأنها أنفقته في شئون الحرب، وتدبير أمور الدولة، فلما اشتد عليها ورابها خوف منه ذهبت إلى القدس خوفًا من غدر السلطان وانتقامه.

ولم يكتف توران شاه بذلك، بل امتد حنقه وضيقه ليشمل أمراء المماليك، أصحاب الفضل الأول في تحقيق النصر العظيم، وإلحاق الهزيمة بالحملة الصليبية السابعة، وبدأ يفكر في التخلص منهم، غير أنهم كانوا أسبق منه في الحركة وأسرع منه في الإعداد، فتخلصوا منه بالقتل.

ولاية شجرة الدر

وجد المماليك أنفسهم في وضع جديد، فهم اليوم أصحاب الكلمة الأولى في البلاد، ومقاليد الأمور في أيديهم، ولم يعودوا أداة في يد من يستخدمهم لتحقيق مصلحة أو نيل هدف، وعليهم أن يختاروا سلطانًا للبلاد، وبدلاً من أن يختاروا واحدًا منهم لتولي شئون البلاد اختاروا شجرة الدر لتولي هذا المنصب الرفيع. ويتعجب المرء من اختيارهم هذا، وهم الأبطال الصناديد، والقادة الذين مشى النصر في ركابهم.

ولم تكن شجرة الدر أول امرأة تحكم في العالم الإسلامي، فقد سبق أن تولت "رضية الدين" سلطنة دلهي، واستمر حكمها أربع سنوات (634-638هـ/1236-1240م).

"وشجرة الدر" من أصل تركي وقيل أرمينية، وكانت جارية اشتراها السلطان الصالح أيوب، وحظيت عنده بمكانة عالية حتى أعتقها وتزوجها وأنجبت منه ولدًا اسمه خليل، توفي في صفر، وفي (2 من صفر 648هـ = مايو 1250م).

أخذت البيعة للسلطانة الجديدة، ونقش اسمها على السكة (النقود) بالعبارة الآتية "المستعصية الصالحية ملكة المسلمين والدة خليل أمير المؤمنين".

تصفية الوجود الصليبي

وما إن جلست شجرة الدر على عرش الحكم حتى قبضت على زمام الأمور، وأحكمت إدارة شئون البلاد، وكان أول عمل اهتمت به هو تصفية الوجود الصليبي في البلاد، وإدارة مفاوضات معه، انتهت بالاتفاق مع الملك لويس التاسع الذي كان أسيرًا بالمنصورة على تسليم دمياط، وإخلاء سبيله وسبيل من معه من كبار الأسرى مقابل فدية كبيرة قدرها ثمانمائة ألف دينار، يدفع نصفها قبل رحيله، والباقي بعد وصوله إلى عكا، مع تعهد منه بعدم العودة إلى سواحل الإسلام مرة أخرى.

غير أن الظروف لم تكن مواتية لأن تستمر شجرة الدر في الحكم طويلاً، على الرغم مما أبدته من مهارة وحزم في إدارة شئون الدولة، وتقربها إلى العامة، وإغداقها الأموال والإقطاعات على كبار الأمراء، فلقيت معارضة شديدة داخل البلاد وخارجها، وخرج المصريون في مظاهرات غاضبة تستنكر جلوس امرأة على عرش البلاد، وعارض العلماء ولاية المرأة الحكم، وقاد المعارضة "العز بن عبد السلام"؛ لمخالفة جلوسها على العرش للشرع. وفي الوقت نفسه ثارت ثائرة الأيوبيين في الشام لمقتل توران شاه، واغتصاب المماليك للحكم بجلوس شجرة الدر على سُدَّة الحكم، ورفضت الخلافة العباسية في بغداد أن تقر صنيع المماليك، فكتب الخليفة إليهم: "إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نسيّر إليكم رجلاً".

تنازل عن العرش

ولم تجد شجرة الدر إزاء هذه المعارضة الشديدة بدًا من التنازل عن العرش للأمير عز الدين أيبك أتابك العسكر، الذي تزوجته، وتلقب باسم الملك المعز، وكانت المدة التي قضتها على عرش البلاد ثمانين يومًا.

وإذا كانت شجرة الدر قد تنازلت عن الحكم والسلطان رسميًا، وانزوت في بيت زوجها، فإنها مارسته بمشاركة زوجها مسئولية الحكم، وخضع لسيطرتها، فأرغمته على هجر زوجته الأولى أم ولده عليّ، وحرّمت عليه زيارتها هي وابنها، وبلغ من سيطرتها على أمور السلطان أن قال المؤرخ الكبير "ابن تغري بردي": "إنها كانت مستولية على أيبك في جميع أحواله، ليس له معها كلام".

وفاة شجرة الدر

غير أنه انقلب عليها بعدما أحكم قبضته على الحكم في البلاد، وتخلص من منافسيه في الداخل ومناوئيه من الأيوبيين في الخارج، وتمرس بإدارة شئون البلاد، وبدأ في اتخاذ خطوات للزواج من ابنة "بدر الدين لؤلؤ" صاحب الموصل، فغضبت شجرة الدر لذلك؛ وأسرعت في تدبير مؤامرتها للتخلص من أيبك؛ فأرسلت إليه تسترضيه وتتلطف معه، وتطلب عفوه، فانخدع أيبك لحيلتها، واستجاب لدعوتها، وذهب إلى القلعة، حيث لقي حتفه هناك في (23 من ربيع الأول 655هـ= 1257م).

أشاعت شجرة الدر أن المعز أيبك قد مات فجأة بالليل، ولكن مماليك أيبك لم يصدقوها؛ فقبضوا عليها، وحملوها إلى امرأة عز الدين أيبك التي أمرت جواريها بقتلها بعد أيام قليلة، وألقوا بها من فوق سور القلعة، ودُفنت بعد عدة أيام.. وهكذا انتهت حياتها على هذا النحو بعد أن كانت ملء الأسماع والأبصار، وقد أثنى عليها المؤرخون المعاصرون لدولة المماليك، فيقول "ابن تغري بردي" عنها: "وكانت خيّرة دَيِّنة، رئيسة عظيمة في النفوس، ولها مآثر وأوقاف على وجوه البر، معروفة بها

خلدون رائد فن الترجمة الذاتية

كذلك فإن ابن خلدون يعد رائدًا لفن الترجمة الذاتية ـ الأوتوبيوجرافيا ـ ويعد كتابه "التعريف بابن خلدون ورحلته غربًا وشرقًا" ـ من المصادر الأولى لهذا الفن، وبرغم أنه قد سبقته عدة محاولات لفن الترجمة الذاتية مثل "ابن حجر العسقلاني" في كتابه "رفع الإصر عن قضاة مصر" ولسان الدين بن الخطيب في كتابه "الإحاطة في أخبار غرناطة"، وياقوت في كتابه "معجم الأدباء". فإنه تميز بأنه أول من كتب عن نفسه ترجمة مستفيضة فيها كثير من تفاصيل حياته وطفولته وشبابه إلى ما قبيل وفاته.

ابن خلدون شاعرًا

نظم ابن خلدون الشعر في صباه وشبابه وظل ينظمه حتى جاوز الخمسين من عمره، فتفرغ للعلم والتصنيف، ولم ينظم الشعر بعد ذلك إلا نادرًا.

ويتفاوت شعر ابن خلدون في الجودة، فمنه ما يتميز بالعذوبة والجودة ودقة الألفاظ وسمو المعاني، مما يضعه في مصاف كبار الشعراء، وهو القليل من شعره، ومنه ما يعد من قبيل النظم المجرد من روح الشعر، ومنه ما يعد وسطًا بين كلا المذهبين، وهو الغالب على شعره.

وبعد، فلقد كان ابن خلدون مثالا للعالم المجتهد والباحث المتقن، والرائد المجدد في العديد من العلوم والفنون، وترك بصمات واضحة لا على حضارة وتاريخ الإسلام فحسب، وإنما على الحضارة الإنسانية عامة، وما تزال مصنفاته وأفكاره نبراسًا للباحثين والدارسين على مدى الأيام والعصور.

* أهم مصادر الدراسة:

ابن خلدون حياته وتراثه الفكري، محمد عبد الله عنان، دار الكتب المصرية ـ القاهرة [ 1352هـ= 1933م]

أعمال مهرجان ابن خلدون، [ المنعقد في القاهرة ـ من 2 إلى 6 يناير 1962م]، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ـ القاهرة [ 1382هـ= 1962م]

عبد الرحمن بن خلدون [ أعلام العرب ـ 4]، د. علي عبد الواحد وافي،
مكتبة مصر ـ القاهرة [ 1382هـ= 1962م]

العمران البشري في مقدمة ابن خلدون، د. سنتيلانا باتسييفا ـ ترجمة: رضوان إبراهيم مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة [ 1406هـ = 1986م].

________________________________________
مصطفى كامل

انتهت الثورة العرابية بوقوع مصر فريسة الاستعمار البريطاني عام (1300هـ = 1882م)، ورغم ذلك لم يكن للاحتلال أي وضع قانوني؛ إذ كانت مصر ولاية عثمانية تتمتع باستقلال داخلي، وتخضع لحكم أسرة محمد علي باشا، واضطر هذا الأمر بريطانيا إلى أن تعلن عن أن وضعها في مصر مؤقت، وسوف ينتهي بإعادة النظام وتثبيت سلطة خديوي مصر.

أما الشعب المصري فقد عاش بعد هزيمة العرابيين فترة من الخمول والإعياء وتضاؤل الروح الوطنية؛ فخيم على البلاد جو من الخضوع للإنجليز، وعمَّ اليأس والقنوط في نفوس كثير من الناس.

وظن البعض أن الحركة الوطنية ماتت في نفوس المصريين؛ فتنكَّر كثيرون –خاصة من الأعيان- للحركة الوطنية، واختفت الصحافة الوطنية، وعاش المصريون فترة من عدم التوازن بينهم وبين واقعهم المرير.

وبدأ هذا الوضع في الاختفاء التدريجي مع نمو روح المقاومة حيث ظهرت جريدة "العروة الوثقى" التي أصدرها الشيخ "جمال الدين الأفغاني" والإمام "محمد عبده".وقد تشكلت جمعية سرية من الوطنيين عُرِفَت باسم "جمعية الانتقام"، وظهرت شخصية "عبد الله النديم" خطيب الثورة العرابية، الذي أشعل بخطبه ومقالاته الوطنية النفوس، وكذلك شخصية "لطيف سليم"، الذي بثَّ الوعي الوطني في نفوس كثير من المثقفين.

وهكذا لم يكد المصريون يلتقطون أنفاسهم من صدمة الاحتلال حتى بدءوا في المطالبة بالاستقلال بزعامة مصطفى كامل، بعدما مهد له الطريق زعماء وطنيون.

مصطفى كامل

ولد مصطفى في (1 رجب 1291هـ = 14 من أغسطس 1874م)، وكان أبوه "علي محمد" من ضباط الجيش المصري، وقد رُزِقَ بابنه مصطفى وهو في الستين من عمره، وعُرِف عن الابن النابه حبُّه للنضال والحرية منذ صغره؛ وهو الأمر الذي كان مفتاح شخصيته وصاحبه على مدى 34 عامًا، هي عمره القصير.

والمعروف عنه أنه تلقى تعليمه الابتدائي في ثلاث مدارس، أما التعليم الثانوي فقد التحق بالمدرسة الخديوية، أفضل مدارس مصر آنذاك، والوحيدة أيضًا، ولم يترك مدرسة من المدارس إلا بعد صدام لم يمتلك فيه من السلاح إلا ثقته بنفسه وإيمانه بحقه.

وفي المدرسة الخديوية أسس جماعة أدبية وطنية كان يخطب من خلالها في زملائه، وحصل على الثانوية وهو في السادسة عشرة من عمره، ثم التحق بمدرسة الحقوق سنة (1309هـ = 1891م)، التي كانت تعد مدرسة الكتابة والخطابة في عصره، فأتقن اللغة الفرنسية، والتحق بجمعيتين وطنيتين، وأصبح يتنقل بين عدد من الجمعيات؛ وهو ما أدى إلى صقل وطنيته وقدراته الخطابية.

وقد استطاع أن يتعرف على عدد من الشخصيات الوطنية والأدبية، منهم: "إسماعيل صبري" الشاعر الكبير ووكيل وزارة العدل، والشاعر الكبير "خليل مطران"، و"بشارة تكلا" مؤسس جريدة "الأهرام"، الذي نشر له بعض مقالاته في جريدته، ثم نشر مقالات في جريدة "المؤيد".

وفي سنة (1311هـ = 1893م) ترك مصطفى كامل مصر ليلتحق بمدرسة الحقوق الفرنسية؛ ليكمل بقية سنوات دراسته، ثم التحق بعد عام بكلية حقوق "طولوز"، واستطاع أن يحصل منها على شهادة الحقوق، ووضع في تلك الفترة مسرحية "فتح الأندلس" التي تعتبر أول مسرحية مصرية، وبعد عودته إلى مصر سطع نجمه في سماء الصحافة، واستطاع أن يتعرف على بعض رجال الثقافة والفكر في فرنسا، وازدادت شهرته مع هجوم الصحافة البريطانية عليه.

وسافر مصطفى كامل إلى برلين في نطاق حملته السياسية والدعائية ضد الاحتلال البريطاني، وأصبح اسمه من الأسماء المصرية اللامعة في أوربا، وتعرَّف على الصحفية الفرنسية الشهيرة "جولييت آدم"، التي فتحت صفحات مجلتها "لانوفيل ريفو" ليكتب فيها، وقدمته لكبار الشخصيات الفرنسية؛ فألقى بعض المحاضرات في عدد من المحافل الفرنسية، وزار الدولة العثمانية وعددًا من الدول الأوربية.

وفي عام (1316هـ = 1898م) ظهر أول كتاب سياسي له بعنوان "كتاب المسألة الشرقية"، وهو من الكتب الهامة في تاريخ السياسة المصرية. وفي عام (1318هـ = 1900م) أصدر جريدة اللواء اليومية، واهتم بالتعليم، وجعله مقرونًا بالتربية، وكان يقول: "إني أعتقد أن التعليم بلا تربية عديم الفائدة".

عباس الثاني والحزب الوطني

تولَّى الخديوي عباس الثاني حكم مصر في (1310هـ = 1892م) وكان عمره 17 عاما، وكان مصطفى كامل يكبره بعام واحد، وقد أراد عباس أن يستقل بالسلطة عن السيطرة الفعلية في البلاد، وهي الإنجليز؛ فبدأ عام (1313هـ = 1895م) في تأليف لجنة سرية للاتصال بالوطنيين المصريين من أجل الدعاية لقضية استقلال مصر، وفي فرنسا بصفة خاصة، وقد عُرفت باسم "جمعية أحباء الوطن السرية".

والتقى مصطفى كامل وأحمد لطفي السيد وعدد من الوطنيين بمنزل محمد فريد، وتم تأليف "جمعية الحزب الوطني" كجمعية سرية، رئيسها الخديوي عباس، وسافر أحمد لطفي السيد إلى أوربا، والتقى ببعض المصريين هناك، وبعد عودته كتب تقريرا عن رحلته، قرر فيه أن مصر لا يمكن أن تتحرر إلا بمجهود أبنائها، وأن المصلحة الوطنية تقضي أن يرأس الخديوي الحركة.

ويرى البعض في ذلك أزمة خطيرة صاحبت الحزب الوطني منذ بداياته الأولى؛ إذ إن نشاطه السياسي والدعائي بدأ تحت ولاية الخديوي عباس ورعايته المادية والمعنوية، والتي تأثرت بعوامل الشد والجذب بين الخديوي والإنجليز؛ فانعكست على علاقة الخديوي بالحزب الوطني، والتي انتقلت من الرعاية والصداقة إلى قطع الصلات بالحزب، بعد الفشل في ترويضه، ثم مطاردة قادته، وإغلاق صحفهم، وتعليق أنشطتهم، واتهامهم بمحاولات اغتيال.

واتخذ أعضاء جمعية الحزب الوطني أسماء مستعارة لهم، فكان الاسم المستعار للخديوي: "الشيخ"، أما الاسم المستعار لمصطفى كامل فهو: "أبو الفدا".

الخديوي ومصطفى كامل

كان مصطفى كامل لسان حال الجمعية؛ فسافر إلى بعض الدول للدعاية للقضية المصرية واستقلال مصر، غير أنه أدرك حقيقة هامة، وهي أن أسلوب الدعاية للقضية المصرية في أوربا لا يكفي لحدوث الاستقلال، وأن العبء الأكبر يجب أن يقع على عاتق المصريين.

أما الخديوي عباس؛ فقد أدرك أن مناصرته العلنية للحركة الوطنية ضد الإنجليز أدت إلى تقليص نفوذه أمام سلطة ونفوذ المعتمد البريطاني في مصر اللورد كرومر؛ فبدأ في فتح صفحات من التقارب مع الإنجليز، جاء بعضها على حساب الحركة الوطنية؛ حيث استدعى مصطفى كامل من أوربا حتى تتوقف حملاته الدعائية ضد الإنجليز، ولكن مصطفى كامل رفض؛ فبدأت العلاقات بينهما تأخذ طابعًا غير مستقر، تحكمه مواقف الخديوي ومصالحه.

وقد اتخذ الخديوي سياسة الوفاق الظاهري مع الإنجليز والمقاومة السرية ضدهم، ولكن هذه السياسة لم تدم طويلاً ليأس الخديوي من أي تعضيد يأتيه من أوربا، خاصة من فرنسا التي شكَّلت سياستها مع مصر بما يتواءم مع مصالحها، وتحلَّى ذلك في الاتفاق الودي بفرنسا وبريطانيا سنة (1322هـ = 1904م)؛ حيث اتفق الطرفان على أن تطلق فرنسا يد بريطانيا في وادي النيل، وأن تطلق بريطانيا يد فرنسا في المغرب؛ فكان هذا الاتفاق ضربة شديدة للحركة الوطنية، فبدأت تبتعد عن الخديوي بعد أن كانت تتخذ منه أداة لصمودها وقوتها.

وحسم مصطفى كامل أمره وكتب رسالة إلى الخديوي في (شعبان 1322هـ = أكتوبر 1904م) قال فيها: "رفعت إلى مقامكم السامي أن الحالة السياسية الحاضرة تقضي عليَّ أن أكون بعيدًا عن فخامتك، وأن أتحمل وحدي مسؤولية الخطة التي اتبعتها نحو الاحتلال والمحتلين".

على أن مصطفى كامل لم يكفّ عن توجيه النقد للخديوي كلما أخطأ، ومن ذلك: نقده لوقوف الخديوي تحت العلم الإنجليزي، واستعراض جيش الاحتلال في ميدان عابدين، وتصريح الخديوي عباس عندما تولى "جورست" مندوبًا ساميًا في مصر بدلاً من "كرومر"، والذي قال فيه: "إن الاحتلال البريطاني أفضل من أي احتلال آخر"؛ فكتب مصطفى مقالاً في اللواء عام (1325هـ = 1907م) قال فيه: "إن كل مصري صادق لا يقبل أن يكون حكم مصر بيد سمو الخديوي بمفرده، أو بيد المعتمد البريطاني، أو بيد الاثنين معًا".

عامان وحدثان

كان مصطفى كامل كثير الأسفار، وعانى كثيرًا من الأزمات والشدائد؛ وهو ما كان له أكبر الأثر في ضعف قواه وتردي صحته؛ فاشتد به المرض عام (1323هـ = 1905م)، ولم يمض عام على هذا التاريخ حتى وقعت حادثة "دنشواي" الشهيرة، التي أعدم فيها الإنجليز عددًا من الفلاحين المصريين أمام أعين ذويهم، بعد محاكمة صورية برئاسة "بطرس غالى" باشا رئيس الوزراء؛ فكانت حادثة بشعة ارتكبها الإنجليز، أججت مشاعر الوطنية والإحساس بالظلم في نفوس المصريين؛ فقطع مصطفى كامل علاجه في باريس، وسافر إلى لندن، وكتب مجموعة من المقالات العنيفة ضد الاحتلال، والتقى هناك بالسير "كامبل باترمان" رئيس الوزراء البريطاني، الذي عرض عليه تشكيل الوزارة، غير أنه رفض هذا العرض.

أما الحدث الثاني فكان في (16 رمضان 1325هـ = 22 أكتوبر 1907م) بالإسكندرية بعد عودته إلى مصر، فقد عاد إلى مصر وهو في حالة شديدة من المرض، وألقى خطبة من أجمل وأطول خطبه، أطلق عليها "خطبة الوداع"، وقد أعلن فيها تأسيس الحزب الوطني الذي تألف برنامجه السياسي من عدة مواد، أهمها: المطالبة باستقلال مصر، كما أقرته معاهدة لندن (1256هـ = 1840م)، وإيجاد دستور يكفل الرقابة البرلمانية على الحكومة وأعمالها، ونشر التعليم، وبث الشعور الوطني. غير أن الجلاء والدستور كانا أهم مطلبين للحزب.

ولم يلبث مصطفى كامل أن تُوفِّي في (6 محرم 1326هـ = 10 فبراير 1908م)، أي بعد حوالي أربعة أشهر من إعلانه عن تأسيس الحزب الوطني.

يتبع
________________________________________
الحزب الوطني بعد مصطفى كامل

تركت وفاة مصطفى كامل فراغا كبيرا داخل الحزب الوطني والحركة الوطنية المصرية، فالرجل رغم قصر سنوات عمره فإنه بدأ العمل السياسي قبل سن العشرين، أي أنه أمضى أكثر من ستة عشر عاما في خضم العمل الوطني وقيادته؛ لذلك جاءت وفاته هزة عنيفة للوطنيين ولحزبه الوليد.

ومن ناحيته حاول الخديوي عباس احتواء هذا الحزب، ومنع انتخاب "محمد فريد" رئيسا للحزب؛ لأن فريد لم يكن رجلاً سهل الانقياد؛ فعمل الخديوي على تقريب بعض زعماء الحزب منه وأملى إرشاداته عليهم. لكن محاولات الخديوي فشلت، وتولى محمد فريد رئاسة الحزب.

وقد اتجه فريد بنشاط الحزب إلى المطالبة بالجلاء والدستور، بالإضافة إلى تشجيع الحركة التعاونية، وفتح المدارس التي أطلق عليها "مدارس الشعب"، وتولى التدريس فيها أعضاء الحزب الوطني، وكانت مدارس ليلية، واهتم الحزب بتأسيس النقابات، فأنشئت في بولاق سنة (1327هـ = 1909م) أول نقابة للعمال بمصر، وهي نقابة عمال الصنائع اليدوية، ثم سرت فكرة تأسيس النقابات في عواصم الأقاليم.

وطوَّر محمد فريد طريقة الحزب في الكفاح الوطني؛ فاتبع أسلوب المظاهرات للمطالبة بالدستور، ومنذ ذلك الوقت بدأ يظهر دور الطلبة في الحياة السياسية بمصر. كذلك أرسل محمد فريد خطابات تهديد إلى الخديوي وكبار رجال القصر، وتم تأسيس جمعيات للطلاب المصريين في الخارج للمطالبة بالاستقلال.

وقدم الحزب عرائض للخديوي تطالب بمجلس نيابي جمع فيها (75) ألف توقيع، إلا أن هذه الجهود لم تثمر عن تحقيق الاستقلال أو الدستور؛ حيث جاءت في وقت ظهرت فيه سياسة الوفاق بين الخديوي والإنجليز، وبالتالي صار الحزب الوطني وقادته هدفًا للاحتلال والخديوي معًا.

وقد اتجه بعض عناصر الحزب إلى تشكيل جمعيات، والقيام ببعض الاغتيالات السياسية، فقام أحد رجال الحزب الوطني بأول اغتيال سياسي في تاريخ مصر الحديثة؛ إذ اغتال "بطرس غالي" رئيس الوزراء عندما أقدم على مد امتياز قناة السويس.

الصراع داخل الوطني

وانقسم الحزب الوطني إلى أجنحة متصارعة؛ فكان هناك الخلاف بين محمد فريد وعلي فهمي كامل شقيق مصطفى كامل؛ حيث إن علي فهمي لم يكن مستريحًا لسياسة محمد فريد المتشددة من الخديوي، كذلك رأى أنه أحق برئاسة الحزب من محمد فريد، ظنًّا منه أن رئاسة الحزب بالوراثة؛ لذلك قام بحركات انشقاق، ساعده فيها الخديوي الذي اتخذ موقفًا متشددًا من الحزب الوطني؛ فألغى جريدتي اللواء الفرنسية والإنجليزية، ثم أغلق "اللواء" نفسها نهائيًا سنة (1331هـ = 1912) بعد (12) عامًا من إنشائها؛ بهدف إضعاف الحزب والسيطرة عليه.

ولما وجد محمد فريد سياسة التضييق على حزبه من قِبَل الخديوي والإنجليز، اتخذ سياسة متشددة، ولم يبال بغضب الخديوي، إلا أن هذه السياسة أغضبت الخديوي عباس؛ فاتهم محمد فريد بتدبير محاولة لاغتياله، وقام باعتقاله سنة (1331هـ = 1912م)، وحوكم محمد فريد محاكمات كثيرة، وكلما خرج من السجن عاد إليه، وضيق عليه أيّما تضييق.

قرر محمد فريد قرر نقل سياسة الجهاد إلى الخارج، وغادر مصر، وبذلك انعزلت قيادة الحزب عن الجماهير، فكان "عبد العزيز جاويش" -أحد القيادات الكبيرة في الحزب- في "إستانبول"، ومحمد فريد في "جنيف"، وأخذ يتنقل بين العواصم الأوربية، وتبعهما عدد من القيادات الأخرى، وبذلك فَقَدَ الحزب قيادات لها قيمة كبيرة؛ فبدأ يعاني من التفكك والصراعات بين أجنحته، بالإضافة إلى عدم وجود موارد مالية تسمح لبعض قياداته في الخارج بالتفرغ للقيام بحرب دعائية ضد الاحتلال.

ومع قيام الحرب العالمية الأولى سنة (1332هـ = 1914م) بدأ الدور التاريخي للحزب الوطني في الاضمحلال؛ حيث ربط بعض قيادات الحزب مصيرهم السياسي بالدولة العثمانية وألمانيا، فلمَّا هزمت هاتان الدولتان في الحرب أصيبت هذه القيادات بشلل تام، سبقه موت "محمد فريد" سنة (1335هـ = 1916م) خارج مصر.

وكانت نهاية الحرب العالمية الأولى تتزامن مع نهاية الحزب الوطني جماهيريًّا، إلا أنه لم يختف من الوجود، ولكن تبدد الجزء الأكبر من جاذبيته، فكان قادة الحزب الوطني في الخارج يبددون قواهم في مشاجرات وصراعات حول قيادة الحزب، أما المصريون في الداخل فكانوا يفتحون صفحة وطنية جديدة من الجهاد والكفاح الوطني بزعامة "سعد زغلول" وحزب الوفد.

استطاع الوفد بعد ثورة 1919م أن يستوعب قطاعات جماهيرية كبيرة من الشعب المصري، بل من قيادات الحزب الوطني؛ فاتخذ الحزب الوطني –الذي أصبح حزب أقلية- سياسة معارضة لأساليب الكفاح الوفدي، وأعلن شعاره المشهور "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء"، وبلغ عداؤه للوفد إلى حدِّ التورط في تحالفات حزبية ضده.

وحدث انقسام داخل الحزب الوطني سنة (1357هـ = 1938م) بسبب اشتراك زعيم الحزب الوطني في وزارة للأحرار الدستوريين على خلاف تقاليد الحزب، الذي رفض الاشتراك في الحكم إلا بعد الجلاء.

واستمر الانقسام في الحزب، رغم ظهور بعض الطفرات في نشاطه في عدد من السنوات، وانتهى الأمر إلى إلغاء الحزب الوطني مع بقية الأحزاب بعد قيام ثورة يوليو 1952م.

مصادر الدراسة:

آرثر إدوارد جولد سميث: الحزب الوطني المصري- ترجمة فؤاد داورة- الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة (1983).

عبد الرحمن الرافعي: مصطفى كامل باعث الوطنية- الطبعة الأولى (1357هـ = 1938).

فتحي رضوان: مصطفى كامل- سلسلة اقرأ- دار المعارف- القاهرة- الطبعة الأولى (1974).

عبد المنعم إبراهيم الجميعي: الخديوي عباس الثاني والحزب الوطني- دار الكتاب الجامعي- القاهرة- الطبعة الأولى (1982).

عصام ضياء الدين السيد: الحزب الوطني والنضال السري (1907 – 1915)- الهيئة العامة للكتاب (1997).
__________________
الجاحظ


في خدمة العقل وضع أبو عثمان عمرو بن بحر الكناني الشهير بالجاحظ -لجحوظ واضح في عينيه- 96 عامًا هي كل عمره، ووضع كل ثقافة العرب واليونان والفرس التي عرفها عصره والتي جمعها الجاحظ ووعاها.
كان الجاحظ منهوم علم لا يشبع، ومنهوم عقل لا يرضى إلا بما يقبله عقله بالحجج القوية البالغة.

كان صبيًا يبيع الخبز والسمك في سوق البصرة، ثم بدأ يأخذ العلم على أعلامه.. فأخذ علم اللغة العربية وآدابها عن الأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري، ودرس النحو على الأخفش، وتبحر في علم الكلام على يد إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام البصري..
وكان يذهب إلى مربد البصرة فيأخذ اللغة مشافهة من الأعراب، ويناقش حنين بن إسحاق وسلمويه فيتعرَّف على الثقافة اليونانية، ويقرأ ابن المقفع فيتصل بالثقافة الفارسية، ثم لا يكتفي بكل ذلك، بل يستأجر دكاكين الوارقين ويبيت فيها ليقرأ كل ما فيها من كتب مؤلفة ومترجمة، فيجمع بذلك كل الثقافات السائدة في عصره؛ من عربية وفارسية ويونانية وهندية أيضا.
ولد الجاحظ سنة 159 هجرية في خلافة المهدي ثالث الخلفاء العباسيين، ومات في خلافة المهتدي بالله سنة 255 هجرية، فعاصر بذلك 12 خليفة عباسياً هم: المهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي بالله، وعاش القرن الذي كانت فيه الثقافة العربية في ذروة ازدهارها.
كان الجاحظ موسوعة تمشي على قدمين، وتعتبر كتبه دائرة معارف لزمانه، كتب في كل شيء تقريبًا؛ كتب في علم الكلام والأدب والسياسية والتاريخ والأخلاق والنبات والحيوان والصناعة والنساء والسلطان والجند والقضاة والولاة والمعلمين واللصوص والإمامة والحول والعور وصفات الله والقيان والهجاء.
أما عن منهجه في معرفة الحلال والحرام فيقول : "إنما يعرف الحلال والحرام بالكتاب الناطق، وبالسنة المجمع عليها، والعقول الصحيحة، والمقاييس المعينة" رافضًا بذلك أن يكون اتفاق أهل المدينة على شيء دليلاً على حله أو حرمته؛ لأن عظم حق البلدة لا يحل شيئا ولا يحرمه، ولأن أهل المدينة لم يخرجوا من طباع الإنس إلى طبائع الملائكة "وليس كل ما يقولونه حقًا وصوابًا".
فقد كان الجاحظ لسان حال المعتزلة في زمانه، فرفع لواء العقل وجعله الحكم الأعلى في كل شيء، ورفض من أسماهم بالنقليين الذين يلغون عقولهم أمام ما ينقلونه ويحفظونه من نصوص القدماء، سواء من ينقلون علم أرسطو، أو بعض من ينقلون الحديث النبوي.
فإذا كان بعض فلاسفة الشرق والغرب فد وقفوا أمام أرسطو موقف التلميذ المصدق لكل ما يقوله الأستاذ فإن الجاحظ وقف أمام أرسطو عقلا لعقل؛ يقبل منه ما يقبله عقله، ويرد عليه ما يرفضه عقله، حتى إنه كان يسخر منه أحيانا.. ففي كتابه الحيوان يقول الجاحظ عن أرسطو وهو يسميه صاحب المنطق: "وقال صاحب المنطق: ويكون بالبلدة التي تسمى باليونانية "طبقون"، حية صغيرة شديدة اللدغ إلا أنها تُعالج بحجر يخرج من بعض قبور قدماء الملوك-، ولم أفهم هذا ولمَ كان ذلك؟!"
ويقول الجاحظ: "زعم صاحب المنطق أن قد ظهرت حية لها رأسان، فسألت أعرابيًا عن ذلك فزعم أن ذلك حق، فقلت له: فمن أي جهة الرأسين تسعى؟ ومن أيهما تأكل وتعض؟ فقال: فأما السعي فلا تسعى؛ ولكنها تسعى على حاجتها بالتقلب كما يتقلب الصبيان على الرمل، وأما الأكل فإنها تتعشى بفم وتتغذى بفم، وأما العض فأنها تعض برأسيها معًا. فإذا هو أكذب البرية".
وكان الجاحظ يؤمن بأهمية الشك الذي يؤدي إلى اليقين عن طريق التجربة، فهو يراقب الديكة والدجاج والكلاب ليعرف طباعها، ويسأل أرباب الحرف ليتأكد من معلومات الكتب.. قال أرسطو: إن إناث العصافير أطول أعمارًا، وإن ذكورها لا تعيش إلا سنة واحدة… فانتقده الجاحظ بشدة لأنه لم يأت بدليل، ولامه لأنه لم يقل ذلك على وجه التقريب بل على وجه اليقين.
كما هاجم الجاحظ رجال الحديث، لأنهم لا يحكّمون عقولهم فيما يجمعون ويروون، ويقول: ولو كانوا يروون الأمور مع عللها وبرهانها خفّت المؤنة، ولكن أكثر الروايات مجردة، وقد اقتصروا على ظاهر اللفظ دون حكاية العلة ودون الإخبار عن البرهان.
فهو لا يقبل ما يرويه الرواة من أن الحجر الأسود كان أبيض اللون واسودَّ من ذنوب البشر، فيقول ساخرًا: "ولماذا لم يعد إلى لونه بعد أن آمن الناس بالإسلام؟!".
والجاحظ يرفض الخرافات كلها ، وينقد من يرويها من العلماء أمثال أبي زيد الأنصاري، فيقول: إن أبا زيد أمين ثقة، لكنه ينقصه النقد لأمثال هذه الأخبار التي يرويها عن السعالي والجن، وكيف يراهم الناس ويتحدثون إليهم ويتزوجونهم وينجبون؟.
وكان الجاحظ يرفض وضع صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مكانة أعلى من البشر، بحيث لا يحق لأحد أن يتعرض لأعمالهم ويقيمها وينقدها، فهو يرى أن من حق المؤرخ أن يتناول أعمالهم بميزان العقل، لأنهم بشر كالبشر يخطئون ويصيبون، وليسوا ملائكة، وإذا كانت صحبتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- تعطيهم حق التوقير فإن هذه الصحبة نفسها تجعل المخطئ منهم موضع لوم شديد؛ لأنه أخطأ رغم صحبته وقربه من الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
ورفض الجاحظ بشدة القول بأن سب الولاة فتنة ولعنهم بدعة"، وعجب من أن الذين يقولون بذلك الرأي مجمعون على لعن من قتل مؤمنًا متعمدًا، ثم إذا كان القاتل سلطانًا ظالمًا لم يستحلوا سبه ولا لعنه ولا خلعه، وإن أخاف العلماء وأجاع الفقراء وظلم الضعفاء..، فالجاحظ -كمعتزلي- كان يرى ضرورة الخروج على الإمام الظالم في حالة وجود إمام عادل، مع الثقة في القدرة على خلع الظالم وإحلال العادل محله، دون إحداث أضرار أكثر مما يتوقع جلبه من المنافع.
وكان الجاحظ يؤكد أن العقل الصحيح أساس من أسس التشريع.
والأسلوب أحد المميزات الكبرى التي تمتع بها الجاحظ، فهو سهل واضح فيه عذوبة وفكاهة واستطراد بلا ملل، وفيه موسوعية ونظر ثاقب وإيمان بالعقل لا يتزعزع.
ويعد الجاحظ من أغزر كتّاب العالم ؛ فقد كتب حوالي 360 كتابًا في كل فروع المعرفة في عصره… وكان عدد كبير من هذه الكتب في مذهب الاعتزال.. وبحث مشكلاته.. والدفاع عنه… لكن التعصب المذهبي أدى إلى أن يحتفظ الناس بكتب الجاحظ الأدبية.. ويتجاهلوا كتبه الدينية فلم يصل إلينا منها شيء.
ومن أشهر وأهم كتب الجاحظ كتابا "البيان والتبيين" و"الحيوان".
ويعتبر البيان والتبيين من أواخر مؤلفات الجاحظ.. وهو كتاب في الأدب يتناول فيه موضوعات متفرقة مثل الحديث عن الأنبياء والخطباء والفقهاء والأمراء… والحديث عن البلاغة واللسان والصمت والشعر والخطب والرد على الشعوبية واللحن والحمقى والمجانين ووصايا الأعراب ونوادرهم والزهد.. وغير ذلك.
ويعد كتاب الحيوان -وهو من مؤلفات الجاحظ الأخيرة أيضا- أول كتاب وضع في العربية جامع في علم الحيوان.. لأن من كتبوا قبل الجاحظ في هذا المجال أمثال الأصمعي وأبي عبيدة وابن الكلبي وابن الأعرابي والسجستاني وغيرهم.. كانوا يتناولون حيوانًا واحدًا مثل الإبل أو النحل أو الطير.. وكان اهتمامهم الأول والأخير بالناحية اللغوية وليس العلمية.. ولكن الجاحظ اهتم إلى جانب اللغة والشعر بالبحث في طبائع الحيوان وغرائزه وأحواله وعاداته.
ولأن الجاحظ كان غزير العلم.. مستوعبًا لثقافات عصره.. فقد كانت مراجعه في كتبه تمتد لتشمل القرآن الكريم والحديث النبوي والتوراة والإنجيل وأقوال الحكماء والشعراء وعلوم اليونان وأدب فارس وحكمة الهند بالإضافة إلى تجاربه العلمية ومشاهداته وملاحظاته الخاصة.
وقد كان للجاحظ أسلوب فريد يشبه قصص ألف ليلة وليلة المتداخلة… إذ أن شهرزاد تحكي لشهريار قصة… ثم يحكي أحد أبطال هذه القصة قصة فرعية.. وتتخلل القصة الفرعية قصة ثالثة ورابعة أحيانًا..ثم نعود للقصة الأساسية.. فالجاحظ يتناول موضوعًا ثم يتركه ليتناول غيره.. ثم يعود للموضوع الأول.. وقد يتركه ثانية قبل أن يستوفيه وينتقل إلى موضوع جديد… وهكذا.
فكتابه "الحيوان" مثلاً لم يقتصر فيه على الموضوع الذي يدل عليه عنوان الكتاب.. بل تناول بعض المعارف الطبيعية والفلسفية.. وتحدث في سياسة الأفراد والأمم.. والنزاع بين أهل الكلام وغيرهم من الطوائف الدينية.. كما تحدث في كتاب الحيوان عن موضوعات تتعلق بالجغرافيا والطب وعادات الأعراب وبعض مسائل الفقه … هذا عدا ما امتلأ به الكتاب من شعر وفكاهة تصل إلى حد المجون بل والفحش.
فكل فصل من الفصول -كما يقول أحمد أمين عن كتاب البيان والتبيين- "فوضى لا تضبط، واستطراد لا يحد… والحق أن الجاحظ مسئول عن الفوضى التي تسود كتب الأدب العربي، فقد جرت على منواله، وحذت حذوه، فالمبرد تأثر به في تأليفه، والكتب التي ألفت بعد كعيون الأخبار والعقد الفريد فيها شيء من روح الجاحظ، وإن دخلها شيء من الترتيب والتبويب.. والجاحظ مسئول عما جاء في الكتب بعده من نقص وعيب، لأن البيان والتبيين أول كتاب ألف في الأدب على هذا النحو وأثر فيمن جاءوا بعده.. وأوضح شئ من آثار الجاحظ في كتب الأدب إذا قورنت بالعلوم الأخرى الفوضى والمزاح ومجون يصل إلى الفحش أحيانًا.

أوضح الجاحظ في "الحيوان" أسلوب تأليفه للكتاب قائلاً : "متى خرج -القارئ- من آي القرآن صار إلى الأثر، ومتى خرج من أثر صار إلى خبر، ثم يخرج من الخبر إلى الشعر، ومن الشعر إلى النوادر، ومن النوادر إلى حكم عقلية ومقاييس شداد، ثم لا يترك هذا الباب ولعله أن يكون أثقل والملال أسرع حتى يفضي به إلى مزح وفكاهة وإلى سخف وخرافة ولست أراه سخفًا".
ويبدو أن عدم ثقة الجاحظ في القراء على وجه العموم كانت سبباً في سلوكه هذا السبيل… فهو يقول: "ولولا سوء ظني بمن يظهر التماس العلم في هذا الزمان، ويظهر اصطناع الكتب في هذا الدهر لما احتجت إلى مداراتهم واستمالتهم، وترقيق نفوسهم وتشجيع قلوبهم -مع فوائد هذا الكتاب- إلى هذه الرياضة الطويلة، وإلى كثرة هذا الاعتذار، حتى كأن الذي أفيده إياهم أستفيده منهم، وحتى كأن رغبتي في صلاحهم رغبة من رغب في دنياهم"
والأسلوب أحد المميزات الكبرى التي تمتع بها الجاحظ، فهو سهل واضح فيه عذوبة وفكاهة واستطراد بلا ملل، وفيه موسوعية ونظر ثاقب وإيمان بالعقل لا يتزعزع.
والجاحظ بهذا الفكر الذي يعلي من شأن العقل، وهذه الثقافة المتنوعة الجامعة، وهذا العمر المديد بما يعطيه للمرء من خبرات وتجارب، وهذا الأسلوب المميز: استحق مكانه المتميز في تاريخ الثقافة العربية بما له من تأثير واضح قوي في كل من جاءوا بعده.
أما ما يؤخذ عليه فهو ما يؤخذ على المعتزلة عمومًا

**********

ولد الجاحظ بمدينة البصرة, موطن المعتزلة, حوالي سنة 150 هـ (=767م). وأفاد من انفتاح علمائها على معارف الدنيا القديمة التي أصبحت ميسورة لأمثاله باللسان العربي. وأكسبه نهمه المعرفي المذهل صفة الموسوعية التي دفعته إلى الكتابة في كل مجال, كما لو كان حريصاً على أن يستحضر في كتبه ورسائله كل ما في الدنيا حوله, وكما لو كان يريد لكتاباته المتنوعة إلى درجة غير مسبوقة أن تكون مرايا متغايرة الخواص, ينعكس عليها التعدد اللانهائي لحضور الإنسان في الكون, ذلك الحضور الذي يجعل من الإنسان العالم الأصغر الذي ينطوي على العالم الأكبر. هكذا, كتب عن معنى التوحيد والعدل وحجج النبوة ونظم القرآن, كما كتب عن النخل والزرع والمعادن وأنواع الحيوان, وعن تعدد الأجناس الموجود في زمنه (الترك, والسودان, والهند والسند, والفرس) وتعدد اتجاهات الفكر (الشيعة بعامة والزيدية بخاصة, والرافضة, والخوارج, والعباسية, والعثمانية) وعن الحرف والطوائف (المعلمين, والكتاب, والصناع, والزراع, والقيان, والجواري, والخصيان) وعن العوائد والأخلاق والملامح النفسية للنماذج والأنماط البشرية, فكتب عن الحب والعشق, الكره والحسد, الجد والهزل, المعاد والمعاش, فضلا عن محبة الأوطان. ولم تفُتْه الكتابة عن النبيذ أو رواية الُملَح والنوادر بلهجاتها, واصلاً ما كتبه عن الغلمان بما كتبه عن البخلاء, غير مفلتٍ حتى لصوص الليل ولصوص النهار, بل البرصان والعرجان والعميان, من مرايا رسائله وكتاباته التي انعكس عليها كل شيء في زمنه .

ولذلك تعددت الصفات الفنية لكتابة الجاحظ التي تجاورت فيها المتعارضات, فجمعت ما بين الإيجاز والإطناب, لحن العامة وفصاحة الخاصة, التوفر على الموضوع الواحد والاستطراد, الاستنباط والاستشهاد, القياس المنطقي والانطباع الذاتي, الرصانة الجهمة والسخرية التهكمية, الرواية والمعاينة, السرد والحكاية, التجريد والتصوير الحسي. وكانت هذه الصفات, في اختلافها وتعارض لوازمها, نتيجة طبيعية للآفاق الموسوعية الرحيبة التي انطلقت منها كتابة الجاحظ, سواء في تعدد أدوارها الفكرية والاجتماعية والسياسية, أو تعدد جوانبها الإبداعية التي اتسعت بحدقتيّ عينيه الجاحظتين اللتين لم تتوقفا عن التحديق في علاقات عصره المتشابكة إلى أن تُوفي في شهر المحرم سنة 255 هـ ( 868 - 869 ميلادية) تاركا تراثه العظيم الذي نقدم أقل القليل من نماذجه
__________________
رحلة ابن بطوطة المغربي


هو محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي، ولد في 703هـ الموافق 1304م. وعندما بلغ الثانية والعشرين من العمر قرر الخروج من مدينة طنجة لأداء فريضة الحج، وهكذا خرج ابن بطوطة من مراكش عابرا الجزائر وتونس وليبيا حتى مصر، ليرحل جنوبا إلى بلاد الصعيد ويسلك طريق البحر الأحمر، لكنه لم يوفق في ذلك فعاد إلى الفسطاط ورحل منها إلى بلاد الشام ثم للحجاز ليؤدي فريضة الحج لأول مرة. وعندما وصل إلى مكة المكرمة قام بطواف القدوم وتعلق بأستار الكعبة وشرب من ماء زمزم قبل أن يسعى بين الصفا والمروة.

وصف ابن بطوطة المسجد الحرام ومساحته وأبوابه كما أشار إلى دور الخليفة المهدي ابن الخليفة أبي جعفر المنصور في توسعه المسجد في عام 167 هـ، ووصف الكعبة المشرفة: ارتفاعها وعرضها وأبوابها وأستارها والميزاب المبارك والحجر الأسود، وأشار إلى أن باب الكعبة يفتح بعد كل جمعة فضلا عن فتحه يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم.

الكعبة لم تخل من طائف

ويبدي ابن بطوطة دهشته وإعجابه بمكانة الكعبة المشرفة حين يكتب في رحلته "من عجائبها أنها لا تخلو من طائف أبدا ليلا ونهارا، ولم يذكر أحد أنه رآها قط دون طائف..." بعد ذلك عرج على ذكر أبواب المسجد الحرام ثم وصف الصفا والمروة والمسافة بينهما، ولم يفته ذِكْر وجود سوق تجارية كبرى إلى جانب الطريق.

وأشار ابن بطوطة إلى فضائل أهل مكة فوصفهم بأنهم أصحاب (المكارم التامة والأخلاق الحسنة والإيثار للضعفاء والمنقطعين وحسن الجوار للغرباء) كما أشار إلى نساء مكة فقال إنهن (ذات صلاح وعفاف)، ولاحظ توجههن للطواف بالمسجد الحرام في كل ليلة جمعة وهن في أحسن زي وأبهى زينة وأطيب رائحة.

وتحدث ابن بطوطة في كتابه عن العديد من علماء مكة ومنهم قاضي المدينة نجم الدين محمد الطبري وخطيب مكة بهاء الدين الطبري. كما أشار إلى إمام المالكية بالحرم الشريف، الفقيه أبو عبد الله محمد، وإلى إمام الحنفية شهاب الدين أحمد بن علي وإمام الحنابلة محمد بن عثمان.

الأكل مرة كل يوم

ونظرا لمكوث ابن بطوطة فترة طويلة في مكة المكرمة بانتظار الحج فقد لاحظ بعض العادات الاجتماعية لسكانها من ذلك قوله (وأهل مكة لا يأكلون في اليوم إلا مرة واحدة ويقتصرون عليها إلى مثل ذلك الوقت ومن أراد الأكل في سائر النهار أكل التمر ولذلك صحت أبدانهم وقلت فيهم الأمراض والعاهات).

ولاحظ أنه بمجرد ثبات رؤية هلال رجب، أمر أمير مكة بضرب الطبول والأبواق إيذانا بدخول الشهر وتوجه وركبه للطواف بالبيت الحرام. كما احتفل أهل مكة بعمرة رجب احتفالا مهيبا، وذكر ابن بطوطة أنه شاهد شوارع مكة المكرمة ليلة السابع والعشرين من رجب وقد غصت بالهوادج وجِمَال المعتمرين وهي تخرج إلى التنعيم وأمامها الشموع والمشاعل.

ولم ينس ابن بطوطة الإشارة إلى حضور أهالي المناطق القريبة من مكة لعمرة رجب بعد أن يجلبوا معهم الحبوب والسمن والعسل وغيرها من السلع، الأمر الذي يسهم في توفير السلع للمعتمرين وفي رخص الأسعار أيضا.

حضر ابن بطوطة ليلة النصف من شعبان في مكة المكرمة فذكر أنها ليلة مباركة عند أهالي مكة، حيث يبادرون فيها إلى الطواف والصلاة جماعات في المسجد الحرام بعد إيقاد السرج والمصابيح فضلا عن ضوء القمر، ويقومون بأداء مائة ركعة وبعضهم يطوفون بالبيت الحرام، والبعض الآخر خرج من أجل أداء العمرة.

قرع الدبادب لاستقبال رمضان

وذكر ابن بطوطة أنه عند حلول شهر رمضان لعام 726 هـ أمر أمير مكة بقرع الطبول والدبادب (آلات خشبية عالية الصوت)، وإقامة احتفال بالمسجد الحرام الذي تم تجديد الحصر به، وزيادة الشمع والمشاعل به، كما لاحظ إقامة الصلاة وراء أئمة المذاهب المختلفة حول الكعبة فضلا عن وجود العديد من قراء القرآن الكريم حتى (.. لا تبقى في الحرم زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي لجماعته فيرتج المسجد لأصوات القراء، وترق النفوس، وتحضر القلوب).

كما تحدث عن وقت السحور في رمضان بمكة المكرمة فأشار إلى قيام (المؤذن الزمزمي) في الصومعة الموجودة في الركن الشرقي من الحرم الشريف بالدعاء والذكر والتحريض على السحور بالإضافة إلى العديد من المؤذنين الآخرين.

وفي أعلى كل صومعة خشبية في مكة تم نصب خشبة كبيرة بحيث يعلق فيها قنديلان من الزجاج طوال وقت السحور بحيث إذا اقترب آذان الفجر يتم إطفاء هذين القنديلين مرة بعد أخرى وبعد ذلك يبدأ المؤذنون في الأذان.

أما سكان مكة الذين لا يصل الأذان إليهم نتيجة ابتعاد بيوتهم فإنهم ينظرون من أعلى سطوح منازلهم فإذا شاهدوا القنديلين مضاءين فإنهم يقومون بالتسحر وإذا رأوهما مطفأين يقلعون عن الطعام.

ويذكر ابن بطوطة أن أهالي مكة يحتفلون بالعشر الأوائل من رمضان فيقوم في كل ليلة أحد أبناء كبار رجال مكة بختم القرآن أمام القاضي وكبار الفقهاء وبعد الانتهاء من ذلك يقام له منبر مزين بالحرير ليخطب للناس من فوقه، وبعد الانتهاء من الخطبة يقوم والده بدعوة الحاضرين إلى وليمة بمنزله.

ويشير ابن بطوطة بشكل خاص إلى أن ليلة السابع والعشرين هي أعظم من احتفالهم بسائر الليالي بحيث يتم أيضا ختم القرآن بحيث تكثر فيها قراءة القرآن فضلا عن زيادة كبيرة في الشموع والقناديل.

تشابه روايات الرحالة مع مرور الزمن

ويمكننا أن نلاحظ هنا تشابها بين رواية الرحالة ابن جبير الأندلسي ورواية ابن بطوطة المغربي على الرغم من اختلاف زمان أدائهم لفريضة الحج (القرن السادس إلى القرن الثامن الهجري) حول كيفية استقبال أمير وسكان مكة لرمضان وكيفية التسحير واستخدام القناديل المضاءة لذلك، وكذلك ما يرجى في ختم القرآن في الليالي العشر الأخيرة منه وقيام أبناء كبراء سكان مكة بختم القرآن في تلك الليالي أمام قاضي مكة وفقهائها، ثم قيامهم بالخطبة وقيام آبائهم الميسورين بإقامة ولائم لسكان مكة.

واحتفالهم الكبير بليلة السابع والعشرين من رمضان ويمكننا أن نفهم مما سبق أن تلك العادات الطيبة استمرت طول قرنين من الزمان كما هي.

ويصف ابن بطوطة استعداد المكيين لاستقابل عيد الفطر المبارك فيذكر أنهم يقومون بإيقاد الشمع والمشاعل والمصابيح بحيث يضاء سطح الحرم كله ويقضي المؤذنون هذه الليلة في تهليل وتكبير وتسبيح، بينما يأخذ الموجودن في الصلاة والطواف والذكر والدعاء.

وبعدما يفرغ أهالي مكة من أداء صلاة الصبح يلبسون أحسن ما لديهم من ثياب ويتوجهون لأداء صلاة العيد بالحرم الشريف وبعدها يقبل الناس على السلام والمصافحة ويتوجهون لدخول الكعبة المشرفة، وبعد ذلك يخرجون إلى مقبرة باب المعلى لزيارة قبور الصحابة والسلف الصالح.

قرع الطبول للصلاة!

مكث ابن بطوطة في مكة بعد ذلك حتى موعد حجته الأولى 726 هـ فيذكر أنه تم تشمير (رفع) أستار الكعبة أو إحرام الكعبة يوم السابع والعشرين من ذي القعدة صونا لها من الشد والجذب الذي يمكن أن تتعرض له من قبل الحجاج ولهفتهم عليها.

كما ذكر أنه بمجرد حلول أول أيام شهر ذي الحجة يتم قرع الطبول في أوقات الصلاة حتى يوم الصعود إلى عرفات وفي اليوم السابع من الشهر يلقي الإمام خطبة المسجد الحرام بعد الانتهاء من صلاة الظهر لكي يعلم الناس فيها كيفية أداء مناسك الحج.

ويصعد الذين حضروا لأداء الفريضة إلى منى في اليوم الثامن برفقة أمراء مصر والشام والعراق وفي اليوم التاسع من ذي الحجة رحل الجميع من منى بعد الصلاة الصبح إلى عرفات.

وذكر أن وقفة العيد كانت يوم خميس، ولم يفته الإشارة إلى بعض الشخصيات الهامة التي قامت بأداء شعيرة الحج ذلك العام منهم الأمير أرغون الدوادار نائب الملك الناصر محمد بن قلاوون المملوكي، وزوجته.

غادر ابن بطوطة والحجاج وعرفات بعد غروب الشمس إلى مزدلفة متأخرين، حيث جمعوا بين صلاة المغرب والعشاء كسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد أن صلوا الصبح في مزدلفة توجهوا نحو منى، حيث رمى جمرة العقبة، وقام الحجاج بالذبح والنحر، ثم حلقوا وحلوا من كل شيء باستثناء النساء والطيب حتى طواف الإفاضة، وأشار ابن بطوطة إلى أن كسوة الكعبة المشرفة وصلت من مصر وقاموا بتغطية الكعبة بها يوم النحر ووصفها بأنها من الحرير حالكة السواد ومكتوب عليها العديد من الآيات القرآنية.

ولم يفته أن يشير إلى أن الملك الناصر هو الذي يتولى أمر كسوة الكعبة فضلا عن تكفله بمعاش القاضي والخطيب والأئمة والمؤذنين والفراشين وما يحتاج إليه الحرم الشريف من الشمع والزيت كل سنة.

وبعد الانتهاء من فريضة الحج لأول مرة غادر ابن بطوطة مكة المكرمة باتجاه العراق في العشرين من شهر ذي الحجة 726 هـ.
__________________

الوليد بن عبد الملك

هو الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، أبو العباس 668-715 وحكم من 705 حتى 715. أمه وليدة بنت العباس بن حزن الحارثية العبسية. كان ولي عهد أبيه عبد الملك بن مروان وولي عهده أخوه سليمان بن عبد الملك وقد أراد قبل موته أن يخلعه ويعهد إلى ابنه عبد العزيز بن الوليد، ووافقه على ذلك الحجاج بن يوسف الثقفي أمير العراق، وقتيبة بن مسلم، أمير خراسان ولكن الموت عاجله قبل أن يفعل، وهذا ما جعل سليمان ينقم عليهما. وجه القادة لفتح البلاد، وكان من رجاله محمد بن القاسم وقتيبة ابن مسلم وموسى بن نصير وطارق بن زياد. امتدت في زمنه حدود الدولة الإسلامية من المغرب الأقصى وإسبانيا غربا إلى بلاد الهند وتركستان فأطراف الصين شرقا اهتم بالعمران، فأنشأ الطرق بخاصة الطرق المؤدية إلى الحجاز، كما حفر الآبار على طول هذه الطرق، ووظف من يعنى بهذه الآبار ويمد الناس بمياهها. أول من حيث المستشفيات في الإسلام وحجز المجذومين وأجرى لهم الأرزاق، وأعطى لكل أعمى قائدا ولكل مقعد خادما، يتقاضون نفقاتهم من بيت المال، وتعهد الأيتام وكفلهم ورتب المؤدبين، وأقام بيوتا ومنازل لإقامة الغرباء. من آثار الوليد الخالدة في العمارة الجامع الأموي بدمشق وكان يعد من عجائب الدنيا، ولا يزال حتى اليوم ناطقا بعظمة الوليد. ومن آثاره عمارة المسجد النبوي والمسجد الأقصى الذي بدأ به أبوه. توفي بدير مران بغوطة دمشق ودفن في دمشق وكان عمره 48 سنة ومدة حكمه عشر سنوات وبضعة أشهر
.


 

رد مع اقتباس