عرض مشاركة واحدة
قديم 27-12-2007, 07:05   #9
sara-alammari
ضيف


الصورة الرمزية sara-alammari

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية :
 أخر زيارة : 01-01-1970 (04:00)
 المشاركات : n/a [ + ]
لوني المفضل : Cadetblue
رد : مكتبة للبحوث العلميه



ابن سينا
عاش ابن سينا في أواخر القرن الرابع الهجري وبدايات القرن الخامس من الهجرة، وقد نشأ في أوزبكستان، حيث ولد في "خرميش" إحدى قرى "بخارى" في شهر صفر (370 هـ= أغسطس 908م).

وحرص أبو عبد الله بن سينا على تنشئته تنشئة علمية ودينية منذ صغره، فحفظ القرآن ودرس شيئا من علوم عصره، حتى إذا بلغ العشرين من عمره توفي والده، فرحل أبو علي الحسين بن سينا إلى جرجان، وأقام بها مدة، وألف كتابه "القانون في الطب"، ولكنه ما لبث أن رحل إلى "همذان" فحقق شهرة كبيرة، وصار وزيرا للأمير "شمس الدين البويهي"، إلا أنه لم يطل به المقام بها؛ إذ رحل إلى "أصفهان" وحظي برعاية أميرها "علاء الدولة"، وظل بها حتى خرج من الأمير علاء الدولة في إحدى حملاته إلى همذان؛ حيث وافته المنية بها في (رمضان 428 هـ= يونيو 1037م).

في محراب العلم والإيمان

وكان ابن سينا عالما وفيلسوفا وطبيبا وشاعرا، ولُقِّب بالشيخ الرئيس والمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، كما عرف بأمير الأطباء وأرسطو الإسلام، وكان سابقا لعصره في مجالات فكرية عديدة، ولم يصرفه اشتغاله بالعلم عن المشاركة في الحياة العامة في عصره؛ فقد تعايش مع مشكلات مجتمعه، وتفاعل مع ما يموج به من اتجاهات فكرية، وشارك في صنع نهضته العلمية والحضارية.

وكان لذلك كله أبلغ الأثر في إضفاء المسحة العقلية على آرائه ونظرياته، وقد انعكس ذلك أيضا على أفكاره وآثاره ومؤلفاته، فلم يكن ابن سينا يتقيد بكل ما وصل إليه ممن سبقوه من نظريات، وإنما كان ينظر إليها ناقدا ومحللا، ويعرضها على مرآة عقله وتفكيره، فما وافق تفكيره وقبله عقله أخذه وزاد عليه ما توصل إليه واكتسبه بأبحاثه وخبراته ومشاهداته، وكان يقول: إن الفلاسفة يخطئون ويصيبون كسائر الناس، وهم ليسوا معصومين عن الخطأ والزلل.

ولذلك فقد حارب التنجيم وبعض الأفكار السائدة في عصره في بعض نواحي الكيمياء، وخالف معاصريه ومن تقدموا عليه، الذين قالوا بإمكان تحويل بعض الفلزات الخسيسة إلى الذهب والفضة، فنفى إمكان حدوث ذلك التحويل في جوهر الفلزات، وإنما هو تغيير ظاهري في شكل الفلز وصورته، وفسّر ذلك بأن لكل عنصر منها تركيبه الخاص الذي لا يمكن تغييره بطرق التحويل المعروفة.

وقد أثارت شهرة ابن سينا ومكانته العلمية حسد بعض معاصريه وغيرتهم عليه، ووجدوا في نزعته العقلية وآرائه الجديدة في الطب والعلوم والفلسفة مدخلا للطعن عليه واتهامه بالإلحاد والزندقة، ولكنه كان يرد عليهم بقوله: "إيماني بالله لا يتزعزع؛ فلو كنت كافرا فليس ثمة مسلم حقيقي واحد على ظهر الأرض".

ريادة فلكية

كان لابن سينا ريادات في العديد من العلوم والفنون؛ ففي مجال علم الفلك استطاع ابن سينا أن يرصد مرور كوكب الزهرة عبر دائرة قرص الشمس بالعين المجردة في يوم (10 جمادى الآخرة 423 هـ = 24 من مايو 1032م)، وهو ما أقره الفلكي الإنجليزي "جير مياروكس" في القرن السابع عشر.

واشتغل ابن سينا بالرصد، وتعمق في علم الهيئة، ووضع في خلل الرصد آلات لم يُسبق إليها، وله في ذلك عدد من المؤلفات القيمة، مثل:

- كتاب الأرصاد الكلية.

- رسالة الآلة الرصدية.

- كتاب الأجرام السماوية.

- كتاب في كيفية الرصد ومطابقته للعلم الطبيعي.

- مقالة في هيئة الأرض من السماء وكونها في الوسط.

- كتاب إبطال أحكام النجوم.

عالم جيولوجيا

وله أيضا قيمة في علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) خاصة في المعادن وتكوين الحجارة والجبال، فيرى أنها تكونت من طين لزج خصب على طول الزمان، وتحجر في مدد لا تضبط، فيشبه أن هذه المعمورة كانت في سالف الأيام مغمورة في البحار، وكثيرا ما يوجد في الأحجار إذا كسرت أجزاء من الحيوانات المائية كالأصداف وغيرها.

كما ذكر الزلازل وفسرها بأنها حركة تعرض لجزء من أجزاء الأرض؛ بسبب ما تحته، ولا محالة أن ذلك السبب يعرض له أن يتحرك ثم يحرك ما فوقه، والجسم الذي يمكن أن يتحرك تحت الأرض، وهو إما جسم بخاري دخاني قوى الاندفاع أو جسم مائي سيّال أو جسم هوائي أو جسم ناري.

ويتحدث عن السحب وكيفية تكونها؛ فيذكر أنها تولد من الأبخرة الرطبة إذا تصعّدت الحرارة فوافقت الطبقة الباردة من الهواء، فجوهر السحاب بخاري متكاثف طاف الهواء، فالبخار مادة السحب والمطر والثلج والطل والجليد والصقيع والبرد وعليه تتراءى الهالة وقوس قزح.

عالم نبات

وكان لابن سينا اهتمام خاص بعلم النبات، وله دراسات علمية جادة في مجال النباتات الطبية، وقد أجرى المقارنات العلمية الرصينة بين جذور النباتات وأوراقها وأزهارها، ووصفها وصفا علميا دقيقا ودرس أجناسها، وتعرض للتربة وأنواعها والعناصر المؤثرة في نمو النبات، كما تحدث عن ظاهرة المساهمة في الأشجار والنخيل، وذلك بأن تحمل الشجرة حملا ثقيلا في سنة وحملا خفيفا في سنة أخرى أو تحمل سنة ولا تحمل أخرى.

وأشار إلى اختلاف الطعام والرائحة في النبات، وقد سبق كارل متز الذي قال بأهمية التشخيص بوساطة العصارة، وذلك في سنة 1353 هـ = 1934م.

ابن سينا والأقرباذين

وكان لابن سينا معرفة جيدة بالأدوية وفعاليتها، وقد صنف الأدوية في ست مجموعات، وكانت الأدوية المفردة والمركبة (الأقرباذين) التي ذكرها في مصنفاته وبخاصة كتاب القانون لها أثر عظيم وقيمة علمية كبيرة بين علماء الطب والصيدلة، وبلغ عدد الأدوية التي وصفها في كتابه نحو 760 عقَّارًا رتبها ألفبائيا.

ومن المدهش حقا أنه كان يمارس ما يعرف بالطب التجريبي ويطبقه على مرضاه، فقد كان يجرب أي دواء جديد يتعرف عليه على الحيوان أولا، ثم يعطيه للإنسان بعد أن تثبت له صلاحيته ودقته على الشفاء.

كما تحدث عن تلوث البيئة وأثره على صحة الإنسان فقال: "فما دام الهواء ملائما ونقيا وليس به أخلاط من المواد الأخرى بما يتعارض مع مزاج التنفس، فإن الصحة تأتي". وذكر أثر ملوثات البيئة في ظهور أمراض حساسية الجهاز التنفسي.

الطبيب الإنسان

بالرغم من الشهرة العريضة التي حققها ابن سينا كطبيب والمكانة العلمية العظيمة التي وصل إليها حتى استحق أن يلقب عن جدارة بأمير الأطباء، فإنه لم يسعَ يوما إلى جمع المال أو طلب الشهرة؛ فقد كان يعالج مرضاه بالمجان، بل إنه كثيرا ما كان يقدم لهم الدواء الذي يعده بنفسه.

كان ابن سينا يستشعر نبل رسالته في تخفيف الألم عن مرضاه؛ فصرف جهده وهمته إلى خدمة الإنسانية ومحاربة الجهل والمرض.

واستطاع ابن سينا أن يقدم للإنسانية أعظم الخدمات بما توصل إليه من اكتشافات، وما يسره الله له من فتوحات طبيبة جليلة؛ فكان أول من كشف عن العديد من الأمراض التي ما زالت منتشرة حتى الآن، فهو أول من كشف عن طفيل "الإنكلستوما" وسماها الدودة المستديرة، وهو بذلك قد سبق الإيطالي "دوبيني" بنحو 900 سنة، وهو أول من وصف الالتهاب السحائي، وأول من فرّق بين الشلل الناجم عن سبب داخلي في الدماغ والشلل الناتج عن سبب خارجي، ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم، مخالفا بذلك ما استقر عليه أساطين الطب اليوناني القديم.

كما كشف لأول مرة عن طرق العدوى لبعض الأمراض المعدية كالجدري والحصبة، وذكر أنها تنتقل عن طريق بعض الكائنات الحية الدقيقة في الماء والجو، وقال: إن الماء يحتوي على حيوانات صغيرة جدا لا تُرى بالعين المجردة، وهي التي تسبب بعض الأمراض، وهو ما أكده "فان ليوتهوك" في القرن الثامن عشر والعلماء المتأخرون من بعده، بعد اختراع المجهر.

وكان ابن سينا سابقا لعصره في كثير من ملاحظاته الطبية الدقيقة، فقد درس الاضطرابات العصبية والعوامل النفسية والعقلية كالخوف والحزن والقلق والفرح وغيرها، وأشار إلى أن لها تأثيرا كبيرا في أعضاء الجسم ووظائفها، كما استطاع معرفة بعض الحقائق النفسية والمرضية عن طريق التحليل النفسي، وكان يلجأ في بعض الأحيان إلى الأساليب النفسية في معاجلة مرضاه.

ابن سينا وعلم الجراحة

وقد اتبع ابن سينا في فحص مرضاه وتشخيص المرض وتحديد العلاج الطريقة الحديثة المتبعة الآن، وذلك عن طريق جس النبض والقرع بإصبعه فوق جسم المريض، وهي الطريقة المتبعة حاليا في تشخيص الأمراض الباطنية، والتي نسبت إلى "ليوبولد أينبرجر" في القرن الثامن عشر، وكذلك من خلال الاستدلال بالبول والبراز.

ويظهر ابن سينا براعة كبيرة ومقدرة فائقة في علم الجراحة، فقد ذكر عدة طرق لإيقاف النزيف، سواء بالربط أو إدخال الفتائل أو بالكي بالنار أو بدواء كاو، أو بضغط اللحم فوق العرق.

وتحدث عن كيفية التعامل مع السهام واستخراجها من الجروح، ويُحذر المعالجين من إصابة الشرايين أو الأعصاب عند إخراج السهام من الجروح، وينبه إلى ضرورة أن يكون المعالج على معرفة تامة بالتشريح.

كما يعتبر ابن سينا أول من اكتشف ووصف عضلات العين الداخلية، وهو أول من قال بأن مركز البصر ليس في الجسم البلوري كما كان يعتقد من قبل، وإنما هو في العصب البصري.

وكان ابن سينا جراحا بارعا، فقد قام بعمليات جراحية ودقيقة للغاية مثل استئصال الأورام السرطانية في مراحلها الأولى وشق الحنجرة والقصبة الهوائية، واستئصال الخراج من الغشاء البلوري بالرئة، وعالج البواسير بطريقة الربط، ووصف بدقة حالات النواسير البولية كما توصل إلى طريقة مبتكرة لعلاج الناسور الشرجي لا تزال تستخدم حتى الآن، وتعرض لحصاة الكلى وشرح كيفية استخراجها والمحاذير التي يجب مراعاتها، كما ذكر حالات استعمال القسطرة، وكذلك الحالات التي يحذر استعمالها فيها.
________________________________________
الأمراض التناسلية

كما كان له باع كبير في مجال الأمراض التناسلية، فوصف بدقة بعض أمراض النساء، مثل: الانسداد المهبلي والأسقاط، والأورام الليفية.

وتحدث عن الأمراض التي يمكن أن تصيب النفساء، مثل: النزيف، واحتباس الدم، وما قد يسببه من أورام وحميات حادة، وأشار إلى أن تعفن الرحم قد ينشأ من عسر الولادة أو موت الجنين، وهو ما لم يكن معروفا من قبل، وتعرض أيضا للذكورة والأنوثة في الجنين وعزاها إلى الرجل دون المرأة، وهو الأمر الذي أكده مؤخرا العلم الحديث.

كتاب عربي علّم العالم

وقد حظي كتابه القانون في الطب شهرة واسعة في أوربا، حتى قال عنه السيد "وليم أوسلر": إنه كان الإنجيل الطبي لأطول فترة من الزمن.

وترجمه إلى اللاتينية "جيرارد أوف كريمونا"، وطبع نحو 15 مرة في أوربا ما بين عامي (878هـ= 1473م، و906 هـ = 1500م) ثم أعيد طبعه نحو عشرين مرة في القرن السادس عشر.

وظل هذا الكتاب المرجع الأساسي للطب في أوربا طوال القرنين الخامس والسادس عشر، حتى بلغت طبعاته في أوربا وحدها أكثر من 40 طبعة.

واستمر يُدرَّس في جامعات إيطاليا وفرنسا وبلجيكا حتى أواسط القرن السابع عشر، ظل خلالها هو المرجع العلمي الأول بها.

قانون ابن سينا للحركة والسكون

أما في مجال الفيزياء فقد كان ابن سينا من أوائل العلماء المسلمين الذين مهدوا لعلم الديناميكا الحديثة بدراستهم في الحركة وموضع الميل القسري والميل المعاون، وإليه يرجع الفضل في وضع القانون الأول للحركة، والذي يقول بأن الجسم يبقى في حالة سكون أو حركة منتظمة في خط مستقيم ما لم تجبره قوى خارجية على تغيير هذه الحالة، فقد سبق ابن سينا إلى ملاحظة حركة الأجسام، واستنباط ذلك القانون الذي عبّر عنه بقوله: "إنك لتعلم أن الجسم إذا خُلي وطباعه ولم يعرض له من خارج تأثير غريب لم يكن له بد من موضع معين وشكل معين، فإذن له في طباعه مبدأ استيجاب ذلك".

وهو بذلك سبق إسحاق نيوتن بأكثر من ستة قرون وجاليليو بأكثر من 5 قرون وليوناردو دافنشي بأكثر من 4 قرون؛ مما يستحق معه أن ينسب إليه ذلك القانون الذي كان له فضل السبق إليه: "قانون ابن سينا للحركة والسكون".

كما ابتكر ابن سينا آلة تشبه الونير Vernier، وهي آلة تستعمل لقياس الأطوال بدقة متناهية.

واستطاع بدقة ملاحظة أن يفرق بين سرعتي الضوء والصوت، وهو ما توصل إليه إسحاق نيوتن بعد أكثر من 600 سنة، وكانت له نظرياته في (ميكانيكية الحركة)، التي توصل إليها "جان بيردان" في القرن الرابع عشر، و(سرعة الحركة) التي بنى عليها "ألبرت أينشتين" نظريته الشهيرة في النسبية.

ابن سينا في عيون الغرب

حظي ابن سينا بتقدير واحترام العلماء والباحثين على مر العصور حتى قال عنه "جورج ساتون": "إن ابن سينا ظاهرة فكرية عظيمة ربما لا نجد من يساويه في ذكائه أو نشاطه الإنتاجي".. "إن فكر ابن سينا يمثل المثل الأعلى للفلسفة في القرون الوسطى".

ويقول دي بور: "كان تأثير ابن سينا في الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى عظيم الشأن، واعتبر في المقام كأرسطو".

ويقول "أوبرفيل": "إن ابن سينا اشتهر في العصور الوسطى، وتردد اسمه على كل شفة ولسان، ولقد كانت قيمته قيمة مفكر ملأ عصره.. وكان من كبار عظماء الإنسانية على الإطلاق".

ويصفه "هولميارد" بقوله: "إن علماء أوربا يصفون "أبا علي" بأنه أرسطو طاليس العرب، ولا ريب في أنه عالم فاق غيره في علم الطب وعلم طبقات الأرض، وكان من عادته إذا استعصت عليه مسألة علمية أن يذهب إلى المسجد لأداء الصلاة، ثم يعود إلى المسألة بعد الصلاة بادئا من جديد؛ فيوفق في حلها".

ولا تزال صورة ابن سينا تزين كبرى قاعات كلية الطب بجامعة "باريس" حتى الآن؛ تقديرا لعلمه واعترافا بفضله وسبْقه.

من مصادر الدراسة:

عيون الأنباء في طبقات الأطباء ابن أبي أصيبعة - دار الثقافة - بيروت (1401 هـ = 1981م).

إخبار العلماء بأخبار الحكماء: علي بن يوسف القفطي - مكتب المتنبي- القاهرة: (د.ت).

تاريخ الطب والصيدلة المصرية (في العصر الإسلامي) د. سمير يحيى الجمال- الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة (1419 هـ = 1999م).

تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك: قدري حافظ طوقان – دار الشروق – القاهرة (د.ت).

تاريخ العلم ودور العلماء في تقدمه: د. عبد الحليم منتصر – دار المعارف – القاهرة (1391هـ= 1971م).

أعلام الفيزياء في الإسلام: د. علي عبد الله الدفاع – د. جلال شوقي – مؤسسة الرسالة – بيروت : (1406 هـ= 1985م).

إسهام علماء العرب والمسلمين في علم النبات: د. علي عبد الله الدفاع – مؤسسة الرسالة – بيروت
__________________

يتبع .
ثابت بن سنان





جمع "ثابت بن سنان" بين عدد كبير من العلوم الإنسانية والتطبيقية، فكان مؤرخًا فيلسوفًا وأديبًا، كما كان طبيبًا وفلكيًا ورياضيًا، وكانت له بصمات واضحة في تلك العلوم والفنون، بالرغم من أنه لم يحقق قدرًا كبيرًا من الشهرة، ولم يبلغ ما بلغه جده "ثابت بن قرة الحراني" من الشهرة والذيوع.

نشأة علمية في أسرة عريقة

ولد "أبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة" في أسرة عريقة، اشتهرت بالعلم والطب، ونشأ في بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية، وموطن العلم وقبلة العلماء، كان أبوه "سنان" طبيبًا ماهرًا، وقد خوله الوزير "أبو عيسى بن الجراح" مهمة الإشراف على علاج المساجين في سجون الدولة، وتوفير الدواء والرعاية الصحية لهم.

كما قلده البيمارستانات ببغداد وغيرها، فكان يقوم بعمله بمهارة وإتقان جعلته موضع ثقة الوزير "علي بن عيسى" والخليفة "المقتدر بالله العباسي".

وكان جده هو الطبيب المعروف "ثابت بن قرة" الذي برز كواحد من أكبر الأطباء والمترجمين في القرن (3هـ = 9م)، والذي كان يتميز بالبراعة والذكاء، وقد روي عنه حفيده "ثابت بن سنان" قصة طريفة مؤداها أنه كان يمر في طريقه دائمًا بجزار يبيع اللحم، وكانت له عادة غريبة، فهو يقطع شرائح الكبد ويضع عليها الملح ثم يتناولها نيئة. وتوقع "ثابت" له أن يصاب بأذى، فجهّز الدواء اللازم له، وكان يحمله معه كلما مر عليه، وفي أحد الأيام مر ثابت بالجزار فسمع صراخًا وعويلاً، فأدرك أنه صار إلى ما توقعه له وعندما سأل عن الخبر قيل له: إن الجزار قد مات، فطلب الدخول عليه، وعلى الفور بدأ بتنشيط نبض الرجل وأعطاه الدواء الذي أعده خصيصًا له، وسرعان ما أفاق الرجل وبدأ يستعيد نشاطه وحيويته.

في بلاط العباسيين

وقد عاصر "ثابت بن سنان" عددًا كبيرًا من الخلفاء العباسيين، وكانت له مكانة وحظوة في بلاط كثير منهم، وجعل علمه وخبرته ومهارته في خدمتهم، فاتصل بالخليفة "الراضي" [320-322هـ = 932-943م]، كما خدم الخليفة "المتقي بالله" [329-333هـ = 941-944م]، وكذلك الخليفة "المستكفي بالله" [333-334هـ = 944-945م]، والخليفة "المطيع" [334-363هـ = 945-974م].

وتولى "ثابت بن سنان" إدارة بيمارستان بغداد فترة طويلة من الزمان.

وكان "ثابت" طبيبًا نبيلاً، اطلع على كتب الأقدمين، وأضاف إليها العديد من خبراته ومشاهداته، وقد ساعده على التبحر في علوم الطب أنه نشأ في أسرة توارثت هذا العلم، وقد سلك فيه مسلك جده "ثابت" في نظره في الطب والفلسفة.

ابن سنان مؤرخًا

ولم يمنع اشتغال ثابت بالطب من اشتغاله بعلم آخر بعيد تمامًا عن مجال الطب، وهو علم التاريخ، وقد وضع "ثابت" كتابًا مشهورًا في التاريخ، أخذ عنه كثير من المؤرخين الذين جاءوا من بعده، وكان كتابه هذا يسجل فترة مهمة من التاريخ الإسلامي في العصر العباسي، بدأه من خلافة المقتدر بالله العباسي سنة [295هـ = 908م] وانتهى قبيل وفاته بنحو عامين سنة [363هـ = 974م]، وقد جعله ذيلاً على "تاريخ الطبري"، ونسج فيه على منواله، واتبع طريقته في التصنيف، إلا أن هذا الكتاب فُقد، ولم يصلنا منه سوى بعض النقول ولكن تظل مهنة الطب هي المسيطرة على فكر ابن سنان وثقافته فهي تطل من ثنايا كتاباته في التاريخ، وبدا جليًا تأثره الواضح بمهنته كطبيب، فكان يهتم بالأخبار الطبية الطريفة، فينساب قلمه في وصفها شارحًا ومحللاً، من ذلك قوله: "حدثني جماعة من أهل الموصل ممن أثق به أن بعض بطارقة الأرمن أنفذ في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة إلى ناصر الدولة رجلين من الأرمن ملتصقين".

ويهتم "ثابت" بوصف صفة التصاق التوأمين، وكيفية تحركهما وتناولهما الطعام، ويتحدث عن اختلاف طبائعهما وتباين مزاجهما، واختلافهما في الميول والاهتمامات.

وفي موضع آخر يقول: "ورأيت في صدر أيام المقتدر ببغداد امرأة بلا ذراعين ولا عضدين، وكان لها كفان بأصابع تامة معلقتان رأس كتفيها لا تعمل بهما شيئًا. وكانت تعمل أعمال اليدين برجليها ورأسها تغزل برجلها وتمد الطاقة وتسويها وتسرّح امرأة برجليها".

ابن سنان معلمًا وطبيبًا

وكان "ثابت بن سنان" أستاذًا للعديد من الدارسين والأطباء، وكان يدرس كتب أبقراط وجالينوس، وكان أحمد وعمر ابنا يونس بن أحمد الحراني ممن قرأ عليه كتب جالينوس في بغداد، كما شارك في ترجمة كثير من الكتب الطبية من اللغات السريانية واليونانية وشرحها وإضافة معلومات جديدة إليها.

وكان لبراعته ومهارته وعلمه أكبر الأثر في توليه رئاسة بيمارستان بغداد خلفًا لأبيه ليكون عميدًا لأطباء بغداد.

وتوفي "ابن سنان" في [11 من ذي القعدة 365هـ = 11 من يوليو 975م].

وقد رثاه "أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابئ" بأبيات، منها:

أثابت بن سنان دعوة شهدت
لديها أنه ذو علة أسف

ما بال طبك لا يشفي، وكنت به
تشفي العليل إذا ما شفّه الدنف

غالتك غول المنايا فاستكنت لها
وكنت ذا يدها والروح تختطف


أهم مصادر الدراسة:

إخبار العلماء بأخبار الحكماء: علي بن يوسف القفطي، مكتبة المتبني – القاهرة: [د. ت].

سير أعلام النبلاء: شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي. إشراف/ شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة – بيروت: [1410هـ=1990م].

شذرات الذهب في أخبار من ذهب: أبو الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي – دار إحياء التراث العربي – بيروت: [د. ت].

عيون الأنباء في طبقات الأطباء: موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم بن خليفة. تحقيق: د. نزار رضا، دار مكتبة الحياة – بيروت: [د. ت].

المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، دراسة وتحقيق: محمد عبد القادر عطا – مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية – بيروت.

وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: أحمد بن محمد بن خلكان. تحقيق: د. إحسان عباس – دار الثقافة – بيروت: [د. ت].

الوافي بالوفيات: صلاح الدين خليل بن أبيك الصفدي. دار النشر فرانز شتاينز – شتوتجارت: [1411هـ = 1991م].
شجرة الدر

لقي السلطان "الصالح أيوب" ربَّه في ليلة النصف من شعبان (سنة 647هـ) والقوات الصليبية تزحف جنوبًا على شاطئ النيل الشرقي لفرع دمياط؛ للإجهاز على القوات المصرية الرابضة في المنصورة، وكانت إذاعة خبر موت السلطان في هذا الوقت الحرج كفيلة بأن تضعف معنويات الجند، وتؤثر في سير المعركة.

ويذكر التاريخ أن شجرة الدر وقفت موقفًا رائعًا، تعالت فيه على أحزانها، وقدمت المصالح العليا للبلاد، وأدركت خطورة الموقف العصيب، فأخفت خبر موته، وأمرت بحمل جثته سرًا في سفينة إلى قلعة الروضة بالقاهرة، وأمرت الأطباء أن يدخلوا كل يوم إلى حجرة السلطان كعادتهم، وكانت تُدخل الأدوية والطعام غرفته كما لو كان حيًا، واستمرت الأوراق الرسمية تخرج كل يوم وعليها علامة السلطان.

وتولت شجرة الدر ترتيب أمور الدولة، وإدارة شئون الجيش في ميدان القتال، وعهدت للأمير "فخر الدين" بقيادة الجيش، وفي الوقت نفسه أرسلت إلى توران شاه ابن الصالح أيوب تحثه على القدوم ومغادرة حصن كيفا إلى مصر، ليتولى السلطنة بعد أبيه. وفي الفترة ما بين موت السلطان الصالح أيوب، ومجيء ابنه توران شاه في (23 من ذي القعدة 648هـ = 27 من فبراير 1250م)، وهي فترة تزيد عن ثلاثة أشهر، نجحت شجرة الدر في مهارة فائقة أن تمسك بزمام الأمور، وتقود دفة البلاد وسط الأمواج المتلاطمة التي كادت تعصف بها، ونجح الجيش المصري في رد العدوان الصليبي، وإلحاق خسائر فادحة بالصليبيين، وحفظت السلطنة حتى تسلمها توران شاه الذي قاد البلاد إلى النصر.

التخلص من توران شاه

بعد النصر تنكر السلطان الجديد لشجرة الدر، وبدلاً من أن يحفظ لها جميلها بعث يتهددها ويطالبها بمال أبيه، فكانت تجيبه بأنها أنفقته في شئون الحرب، وتدبير أمور الدولة، فلما اشتد عليها ورابها خوف منه ذهبت إلى القدس خوفًا من غدر السلطان وانتقامه.

ولم يكتف توران شاه بذلك، بل امتد حنقه وضيقه ليشمل أمراء المماليك، أصحاب الفضل الأول في تحقيق النصر العظيم، وإلحاق الهزيمة بالحملة الصليبية السابعة، وبدأ يفكر في التخلص منهم، غير أنهم كانوا أسبق منه في الحركة وأسرع منه في الإعداد، فتخلصوا منه بالقتل.

ولاية شجرة الدر

وجد المماليك أنفسهم في وضع جديد، فهم اليوم أصحاب الكلمة الأولى في البلاد، ومقاليد الأمور في أيديهم، ولم يعودوا أداة في يد من يستخدمهم لتحقيق مصلحة أو نيل هدف، وعليهم أن يختاروا سلطانًا للبلاد، وبدلاً من أن يختاروا واحدًا منهم لتولي شئون البلاد اختاروا شجرة الدر لتولي هذا المنصب الرفيع. ويتعجب المرء من اختيارهم هذا، وهم الأبطال الصناديد، والقادة الذين مشى النصر في ركابهم.

ولم تكن شجرة الدر أول امرأة تحكم في العالم الإسلامي، فقد سبق أن تولت "رضية الدين" سلطنة دلهي، واستمر حكمها أربع سنوات (634-638هـ/1236-1240م).

"وشجرة الدر" من أصل تركي وقيل أرمينية، وكانت جارية اشتراها السلطان الصالح أيوب، وحظيت عنده بمكانة عالية حتى أعتقها وتزوجها وأنجبت منه ولدًا اسمه خليل، توفي في صفر، وفي (2 من صفر 648هـ = مايو 1250م).

أخذت البيعة للسلطانة الجديدة، ونقش اسمها على السكة (النقود) بالعبارة الآتية "المستعصية الصالحية ملكة المسلمين والدة خليل أمير المؤمنين".

تصفية الوجود الصليبي

وما إن جلست شجرة الدر على عرش الحكم حتى قبضت على زمام الأمور، وأحكمت إدارة شئون البلاد، وكان أول عمل اهتمت به هو تصفية الوجود الصليبي في البلاد، وإدارة مفاوضات معه، انتهت بالاتفاق مع الملك لويس التاسع الذي كان أسيرًا بالمنصورة على تسليم دمياط، وإخلاء سبيله وسبيل من معه من كبار الأسرى مقابل فدية كبيرة قدرها ثمانمائة ألف دينار، يدفع نصفها قبل رحيله، والباقي بعد وصوله إلى عكا، مع تعهد منه بعدم العودة إلى سواحل الإسلام مرة أخرى.

غير أن الظروف لم تكن مواتية لأن تستمر شجرة الدر في الحكم طويلاً، على الرغم مما أبدته من مهارة وحزم في إدارة شئون الدولة، وتقربها إلى العامة، وإغداقها الأموال والإقطاعات على كبار الأمراء، فلقيت معارضة شديدة داخل البلاد وخارجها، وخرج المصريون في مظاهرات غاضبة تستنكر جلوس امرأة على عرش البلاد، وعارض العلماء ولاية المرأة الحكم، وقاد المعارضة "العز بن عبد السلام"؛ لمخالفة جلوسها على العرش للشرع. وفي الوقت نفسه ثارت ثائرة الأيوبيين في الشام لمقتل توران شاه، واغتصاب المماليك للحكم بجلوس شجرة الدر على سُدَّة الحكم، ورفضت الخلافة العباسية في بغداد أن تقر صنيع المماليك، فكتب الخليفة إليهم: "إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نسيّر إليكم رجلاً".

تنازل عن العرش

ولم تجد شجرة الدر إزاء هذه المعارضة الشديدة بدًا من التنازل عن العرش للأمير عز الدين أيبك أتابك العسكر، الذي تزوجته، وتلقب باسم الملك المعز، وكانت المدة التي قضتها على عرش البلاد ثمانين يومًا.

وإذا كانت شجرة الدر قد تنازلت عن الحكم والسلطان رسميًا، وانزوت في بيت زوجها، فإنها مارسته بمشاركة زوجها مسئولية الحكم، وخضع لسيطرتها، فأرغمته على هجر زوجته الأولى أم ولده عليّ، وحرّمت عليه زيارتها هي وابنها، وبلغ من سيطرتها على أمور السلطان أن قال المؤرخ الكبير "ابن تغري بردي": "إنها كانت مستولية على أيبك في جميع أحواله، ليس له معها كلام".

وفاة شجرة الدر

غير أنه انقلب عليها بعدما أحكم قبضته على الحكم في البلاد، وتخلص من منافسيه في الداخل ومناوئيه من الأيوبيين في الخارج، وتمرس بإدارة شئون البلاد، وبدأ في اتخاذ خطوات للزواج من ابنة "بدر الدين لؤلؤ" صاحب الموصل، فغضبت شجرة الدر لذلك؛ وأسرعت في تدبير مؤامرتها للتخلص من أيبك؛ فأرسلت إليه تسترضيه وتتلطف معه، وتطلب عفوه، فانخدع أيبك لحيلتها، واستجاب لدعوتها، وذهب إلى القلعة، حيث لقي حتفه هناك في (23 من ربيع الأول 655هـ= 1257م).

أشاعت شجرة الدر أن المعز أيبك قد مات فجأة بالليل، ولكن مماليك أيبك لم يصدقوها؛ فقبضوا عليها، وحملوها إلى امرأة عز الدين أيبك التي أمرت جواريها بقتلها بعد أيام قليلة، وألقوا بها من فوق سور القلعة، ودُفنت بعد عدة أيام.. وهكذا انتهت حياتها على هذا النحو بعد أن كانت ملء الأسماع والأبصار، وقد أثنى عليها المؤرخون المعاصرون لدولة المماليك، فيقول "ابن تغري بردي" عنها: "وكانت خيّرة دَيِّنة، رئيسة عظيمة في النفوس، ولها مآثر وأوقاف على وجوه البر، معروفة بها


 

رد مع اقتباس